قصة قصيرة: استقامة ..

القاصة: كوثر بنحدو

رفع الغطاء الثقيل عن رأسه بيدين متعبتين، وفتح عينه بصعوبة وهو يغمض الثانية، وبداخله يردد اللعنة على هذا الشباك المتآكل الذي يسمح بمرور هذا الضوء الخفيف، والذي لا يأبى سوى الإرتكاز حول جبينه.

أمال بجسده من السرير وأنزل ساقيه، إحداهما أصابت هدفها، والثانية ظلت تبحث عن فردة النعل الثانية لبعض ثوان قبل أن تثبت عليها، من دون أن يكلف نفسه النظر إلى ما يحدث عند قدميه، فهو يعلم بأن أشياءه في هذه الغرفة الصغيرة لا تتزحزح غالبا ولا تتغير، كما العالم حوله! أخذ نفسا عميقا، استنشق فيه بعض الغبار المحيط به.

شعر به عبر أنفه وحنجرته مع مزيج من رائحة الكتب القديمة، بعض من تبغ منطفئ عند رأسه فوق طاولة السرير، وكوب قهوة باردة مندلق على السجاد.

صوت الضجيج في الشارع يصل مكتوما، الباعة المتجولون يتفننون في حذف بعض الحروف من كلماتهم لإعطائها نبرة مميزة عند المناداة لعرضها، صوت محركات السيارات المارة من هناك بين الحين والحين يشبه صدرا أرهقه السعال، وصوت زميرها المبحوح يُكاد الجزم بأنه صراخ رضيع أهملته أمه، بينما صوت الأطفال يعلو مرة وينخفض مرة، كلما مروا أو ابتعدوا عن الشباك..

من القائل بأن الأطفال ملائكة! انتفض بجسده أخيرا ووقف على قدميه، رفع رأسه للمرآة المقابلة لمستوى صدره، بقع الصدأ تملؤها، لكنه يستطيع من خلالها رؤية بعض ملامحه، لا زال يتذكر وجهه الطفولي رغم التجاعيد التي كسته.

نظر إلى ساعة يده، ساعة فضية من الطراز القديم، إنها الذكرى الوحيدة المتبقية من والده، ساعة مطورة تعرض التقويم الشهري أيضا..

لقد مرت مدة طويلة منذ زيارته الأخيرة لحلاق الحي! شعر بأن الساعة بدأت تتباطؤ هي الأخرى، كما حركة العالم في الخارج، يختفي صوت الباعة بعد عودتهم إلى منازلهم آخر النهار، تقل حركة السيارات في المساء، تختفي الملائكة، وتختفي أغلب الأشياء في الغرفة، وتختبئ عيوبها في الظلام، ينقص الضوضاء و تنزل السكينة، يعم الهدوء وتسود العتمة ويشتد البرد..

تنحني الجفون ويحل السكون، كل شيء يسقط حوله.. بينما ظهره لا يزال محافظا على استقامته ليجعل جسده واقفا شامخا وقائما وسط كل هذا الانهيار! 

التعليقات مغلقة.