قصة قصيرة: يوم أسود

الكاتب والشاعر المغربي مصطفى الأحول 

استيقظ متأخرا ،قبل موعد صلاة الجمعة بقليل ،نظر إلى ساعته ،لم يتبقى له سوى ساعات قليلة عن موعد عمله.

قال في نفسه، استيقظت متأخرا اليوم، كثيرة هي الأشياء ستؤجل لأن موعدها أعدمه النوم أو بتره السيف،الأمر سيان.

ثم توجه نحو المغسلة، أدار الصنبور، لم يأتي الماء بعد، ربما حتى المساء، من حسن حظه لا زالت قارورتين مملوءتين بالماء، رش أو صفع وجهه الذابل بصفعات من ماء بارد، طرد منه الكسل والخمول وكل جيوش النوم المستعمرة جسده.

بخطى ثقيلة واهنة، كخطى محارب انتهى لتوه من حرب طويلة الأمد، الى مطبخه قادته خطاه أو معدته الفارغة والحق أنهما معا.

مطبخه والذي كعادته يكون نصيبه من التأجيل وافرا، المغسلة مملوءة عن آخرها بآواني عشاء أمس المتأخر، تركه واتجه نحو إبريق الشاي الذي من حسن حظه، كان يوجد خارج بالوعة مغسلة الأواني؛ ملأه بماء معدني لأن ماء الصنبور غير صالح للاستهلاك، وعلى نار هادئة تركه ينضج، لينشغل بتحضير أمور أخرى، هي نصف ساعة، كان الفطور جاهزا، تناوله على مهل، وتأبط محفظته وهم خارجا نحو مقهى الحي، لم يتبق له سوى ساعة ونيف، ساعة كافية لأن يعدل فيها مزاجه ويتحرر من جبروت النوم، وبعد انصرام الساعة كان قد ارتشف قهوته ودخن سجائره فعدل ميزاجه المضطرب.

ولما اقتربت النصف ساعة المتبقية، آن أوان سيزيف بالظهور وتكرار المهمة، حمل صخرته بل محفظته وصعد، إنه صعود شاق وموحش، لا يلطف من وحشيته عشب ولا شجر، لن تسمع فيه سوى صرير وقع أقدامك الصلبة، وهي تمشي على خشخشة الحصى وهي تسحق الأحجار من تحتها، ولما وصل مقر عمله، تساءل، ماذا لو وصل “سيزيف” إلى القمة؟ ولم يجد شيئا، لا خلاص ولا ألهة، فقط نهر هيراقليطي في صيرورة لا تنتهي؟

ماذا لو كان يعلم سيزيف بذلك؟ أكان سينتقم من نفسه لسذاجته؟ فيقاطع تلاميذه تساؤلاته، أطفال كلهم بشاشة وحيوية ونشاط، إنهم ورود حديقته ونتاج أفضل أرض يملكها، عيونهم متقدة، يحفظون عن ظهر قلب كل أقواله وعباراته، تعجبهم طريقته السلسة في الشرح ،في تقديم أمثلة حية من واقعهم المعاش، يندهشون فتتولد الأسئلة الجذرية، فبدون الدهشة تحافظ الأراء على يقينها المطلق، والحق يقال، أن أصل الفن والعلم والفلسفة هو الدهشة أمام أسرار العالم.

انتهت الحصة، غادروا والتحق تلاميذ قسم آخر، وأثناء إلقائه للدرس، اهتز هاتفه، المرة الأولى وضعه على الطاولة مع تفعيل خاصية صامت، يقوم بإعادة الاتصال للمرة الثانية والثالثة…، آه رقم غريب يتصل بإلحاح، هناك طارئ ما، أظن أنها كارثة جديدة تنتظرني، وابتسم في وجه تلاميذه، ليردوا عليه خيرا أستاذ إن شاء الله.

اعتذر منهم وخرج إلى الباب فضغط على زر الإستقبال، ألو السلام عليكم!!؟ أهلاً صديقي أين أنت؟ رقم غريب وصوت لم يميزه لمن بعد، وكلمات مريبة، كل هذا جعله يصمت قليلا ويتساءل، من يكون؟ فأجاب أنا هنا.

وهي إجابة اكثر تلغيزا، هدفها يكمن في استدراج المتصل ليفصح عن هويته وسبب اتصاله، فيجيبه المتصل: لقد جئت عندك للدار، فوجدت الماء خارج باب العمارة، إنه يخرج من شقتك.

آه أجاب؛ إنه شعور مزدوج فرح وتذمر، فرح لمعرفة المتصل، وحزن وتدمر من الكارثة العظمى التي أصابته هذا المساء، ثم أجاب: صديقي عبدو، الآن في العمل، حاول من فضلك قطع الماء على شقتي، فأجابه لقد غادرت؛ فشكره وقطع الاتصال وعشرات الصور تروج مخيلته.

كثيرة هي الأشياء غرقت؛ كتب وأوراق عديدة كانت على الأرض، وملابس أيضاً وكل أفرشة الأرض.

إنه طوفان بحق فمن له القدرة على النجاة؟، هكذا قال، ثم تذكر أن اليوم هو موعد مجيء الماء، وصنبور مغسلة المطبخ تركه مفتوحا في الصباح، ومع أن بالوعة المغسلة مسدودة بالآواني، فاض الماء عنها وساح كل أرجاء الشقة.

بضع دقائق كانت كافية لتحول معالم الشقة إلى مسبح تسبح فيه الكتب والأوراق وباقي الأغراض الآخرى.

استأنف الحصة، حتى دق الجرس، بخطى مسرعة تدحرج عبر المنحدر الشاق، ولما وصل باب العمارة، وجد صاحبها وأخيه عند بابها، قال الأخ، لقد علمت بالأمر متأخرا فقطعت الماء عن الشقة، وبعبارة وجيزة قال لهم: شكرا لكم، وصعد حيث توجد شقته بالطابق الثاني، أدراج العمارة وكأنها شلال أطلسي في بداية الربيع، يتدفق برفق.

فتح الباب وتفقد أغراضه، فلم ينجو من الغرق سوى ما يحمله السرير، وما تحمله الطاولة وكأنهما سفينة نوح غرق كل من تعذر عليه الصعود اليهما. 

ابتسم وتوجه إلى النافذة وأشعل سيجارته، وكأنه نيرون يلقي نظرته الآخيرة على روما وهي تغرق.

التعليقات مغلقة.