قصة قصيرة: يوميات مسافر 

مصطفى الأحول

ذات صباح، أياما قليلة بعد استقراره في “كتامة”، ذهب من فراشه، فغسل وجهه ثم غادر الفندق، من غير أن يعرف وجهته على وجه التحديد؛ قادته غريزته، والتي كعادتها تستيقظ قبل عقله، إلى مقهى وسط المركز، بجانب محطة بئيسة منزوية على حافة النهر، بنايات حديثة البناء، كانت تنبجس الواحدة إلى جوار الأخرى في غير انسجام مع أرض مغبرة، وطريق غير معبد لم يسو بعد، مشكلة بذلك مشهدا كئيبا وحزينا في ذات الوقت.

 

دخل الى المقهى واختار طاولة متقدمة تطل على الشارع عبر زجاج شفاف تقابل النهر والجبل، جلس ثم اعتدل واضعا وجهه قبالة النهر، لم يكن المكان هنا قد غص بالزبائن، فأغلب الطاولات خالية، إلا من بعض التلاميذ الغارقين في متابعة هواتفهم المحمولة. 

جاءه النادل مسرعا، مسح أثار الغبار على الطاولة، بخرقة مبلولة، واستقام، طلب منه الفطور، بضع دقائق كان الفطور جاهزا، بيضة مقلية في الماء، وكأس شاي وجبن وقطعة فرماج، وأربع حبات من الزيتون الأسود غير مجفف، ولا مشمس، وكأس عصير ليمون صغير.

 

فطور بئيس، قادر على إتلاف معدته دون أن يأكل جيداً، تناول وجبته على مضض، وعند الانتهاء، طلب قهوة سوداء ليعدل مزاجه أو بالأحرى ليساعد العقل، هذا الكسول الخامل بالإستيقاظ.

 

فالوعي لحظة متأخرة الظهور، عاش الإنسان ردحا من الزمن بسعادة وهناء دونما حاجة لهذا المشاكس، لقد فكر الإنسان طويلا دونه، وأحس وفعل أشياء كثيرة وعظيمة.

 

فالحياة ممكنة دون أن تنظر إلى ظلها، فحالة التأمل كانت في أكثر مناحيها مضادة للطبيعة، وأن الإنسان المفكر حيوان فاسد، هذا ما قاله الرومانتيكي “روسو”، وعند تدخينه لسجارتين بينهما فاصل زمني قصير .  

ترجل خارج المقهى في اتجاه النهر الرقراق، أشجار أرز شامخة منتشية بعلوها صباح مساء، تداعب السحب الملبدة سماء المكان، النهر يغني ترانيم تارة، وتارة أخرى تعويذة بلحن صوفي زاهد يتعبد بها للجبل الجليل العالي علو ما في المكان؛ شجيرات الجوز واللوز منتشرة على جنبات النهر ك”أبي الهول” تحرسه في الشتاء أعتى الفصول وأكثرها شرا؛ حقول صغيرة غير منبسطة، منتشرة هنا وهناك، وفلاح يغازل شجيرات”التريكيتا”، في حقله الصغير غير المستوي.

 

منجذب إليها بقلب عاطفي جبار، متناغم معها حد التماهي، ومنسجم أتم الإنسجام، لدرجة اتخاذه من حقله هذا معيارا للخير والشر.

 

فالخير بالنسبة إليه هو كل شيء يميل الى صون هذا الانسجام والتماهي وجمال الحقل كله، ويكون شرا عندما يميل عكس ذلك.

 

إنه مرتبط أشد الارتباط بحقله، عكس إنسان المدن المفصول نهائيا عن الأرض من قبل الكثير من الوسطاء، والأدوات المادية، وبالتالي غياب تلك العلاقة الحيوية، وظهور علاقة اقتصادية تستتبع امتيازات لا التزامات.

 

على ضفاف النهر الرقراق، تحث شجرة الجوز العريقة الضاربة في أعماق تاريخ المكان، مسندا ظهره على غصنها تذوق لفافات الحشيش؛ اللفافة الأولى والثانية من حشيش “زݣارة” فتسمر في سكون بهيج ملأه لا مبالاة سعيدة، فشعر بالسنين والهموم والأحزان تتداعى، وأحس برأسه كما لو لم يكن أبدا مشدودا إلى جسده، بل مستقلا بذاته، يسبح في عوالم أخرى، هكذا تحرر من ثقله وعاش تجربة صوفية زاهدة.

 

ولما بدأ المساء يدنو، والشمس وهي تأوي إلى مضجعها، صبغت وجه المساء بحمرتها فأصبحت كعروس في ليلة عرسها في أبهى حللها.

هدوء وصمت لا يكسرهما سوى عواء الثعالب، وأغاني مزعجة بلحن كئيب ل”علجوم” ثمل بنسمات القنب الهندي التي تفوح في أرجاء المكان؛ ساعدته على العودة إلى جسده، كسفينة ظلت طوال اليوم تنتظر عودة شاطئها المسافر.

التعليقات مغلقة.