“معلش” صرخة “الدحدوح” التي لا زالت تلامس شغاف القلوب

الحبيب عكي

 

 

 

أقوى شطر من نشيد المقاومة الفلسطينية الباسلة. والمعنون ب “معلش”، هو قول المنشد الجهوري الصداح: “بدها صبر رغم القهر.. خلوا العزائم فوق”. صلب نشيد درامي واقعي، محفز وملهم، يختزل المأساة. ويواكب التفاصيل الميدانية لملحمة “طوفان الأقصى”المظفرة.

 

 

 

ملحمة شعب غزة ضد العدوان الصهيو-أمريكي الهمجي الغاشم والمدجج بشراسة الأسلحة المدمرة الفتاكة ضد المدنيين الأبرياء. وبدعم ومباركة قوى الاستكبار العالمي المتغطرس. بقيادة أمريكا وجل دول أوروبا الغربية ضد على شعوبها المتماوجة الهادرة، اليوم. في كل الفضاءات والمناسبات. ضدا على قرارات وسياسات قادتها البلهاء التي تأبى إلا الظلم وازدواجية المعايير الدولية. وجعلها منحازة بوجه سافر مكشوف للكيان الصهيوني الغاصب السفاح.

 

والنشيد من كلمات وألحان وتوزيع الفنان “سائد العجيمي”. إنتاج فريق إذاعة “حسنى” الأردنية. وهو من وحي الموقف البطولي الدرامي والجهادي لمراسل قناة “الجزيرة”. الإعلامي الفلسطيني الصامد الشامخ “وائل الدحدوح”. وذلك عندما وقف في أحد مستشفيات القطاع على جثث بعض الأطفال الفلسطينيين. وضمنهم أطفال من أسرته. وهو الذي سبق أن فقد زوجته وابنته وابنه وحفيده… وكلهم سقطوا شهداء. فما كان منه إلا أن تمالك نفسه واعتصر ألمه وكظم غيظه وهو يغالب واجبه الإعلامي على عطفه الإنساني. فقال بثبات الصابر المحتسب: “.. إنهم ينتقمون منا بالأولاد.. معلش”. فالتقطها الشاعر في لقطة صدق درامية وإنسانية فقال: “ما بقدروش على رجالنا.. ينتقموا من الأولاد.. والله ما نترك دارنا.. احنا أهل البلاد.. معلش كله فداء فلسطين. معلش، لو سالت دموع العين.. معلش تحت القصف واقفين.. معلش، احنا اللي منتصرين؟.

 

        

وأضاف “مسلم الكثيري” (موسيقي وباحث عماني): أن الصور الدرامية للمأساة قد تتالت أمام الفنان. وهي تسعفه في رسم لوحة بانورامية قاتمة. وفي نفس الوقت، لقطات توثيقية للحرب المروعة. ولكنها فنيا رائعة وأزهى ما تكون. إذ جمعت في فسيفسائها كل نفائس الصدق والصمود والأمل والاستبسال واليقين في الله وفي المستقبل… معاني منبعثة كالعنقاء من تحت شراسة العدوان وهمجية هدم البوت. وتدمير المباني والقتل المروع. إضافة للنزوح الإجباري واصطياد الأبرياء في كمائن المساعدات. وتيه ولخبطة العدو الجبان في البحث عن الأسرى؟. في هذا المشهد الدرامي. هذا فلسطيني آخر يصرخ أنه فقد ابنته بعد 12 عاما من محاولة الإنجاب. فيصرح أنها فداء القدس ويصرخ: “لو قتلوا أطفالنا.. لو هدموا البيوت.. احنا بظهور رجالنا.. نوقف في وجه الموت.. معلش، كله فداء فلسطين.

 

        

فلا استسلام ولا يأس. رغم القتل والتشريد والحصار (17 سنة) والدمار والإعصار. رغم الألم جراء خذلان الآخرين كالأصفار على الشمال. فيبقى طرد الاستعمار وتحرير الأرض من مستوطناته وحواجزه وتصاريحه وسجونه.. أمر مشروع. وكل الشعب الفلسطيني وراء مقاومته ومع مناصريه. لا زال صابرا يتحدى ويسترخص كل التضحيات بكل إيمان ويقين. لتأتي لقطة أخرى في النشيد. تظهر فيها امرأة مسنة رفقة أبنائها يطلون من نافذة بيت خرب قصفه العدو. وهي ترفع شارة النصر وتقول: “ما بنطلع من بلادنا.. ولا من أراضينا ولا من دارنا.. واللي بيدهم يسووه يسووه. ليصوغها الشاعر: “بدها صبر رغم القهر.. خلوا العزائم فوق.. الله وعدنا بالنصر.. مهما الألم بندوق. معلش، كله فداء فلسطين.. معلش، احنا اللي منتصرين؟. وفعلا، عندما يجبر العدو وحلفاؤه لخوض معركة مدمرة غير متكافئة ما يزيد عن 8 أشهر. من أجل العثور على مجرد 4 أسرى فقط. فذلك نصر مؤازر للمقاومة. ومعنى بارز لشعارها: “وإنه لجهاد.. نصر أو استشهاد”؟.

 

        

 

هذا النشيد، سرعان ما انتشر بشكل واسع عبر مواقع التواصل الاجتماعي. وحصد فيها ملايين المشاهدات وآلاف التحميلات. رغم ما طاله في البدء من الحذف التعسفي من أحد مسؤولي القناة على خلفية أنه زائد الجرعة وخارج المألوف. لكنه أبى إلا أن يكون تحفة رائعة تثري التراث الفلسطيني الفني المقاوم. يشحذ همم المقاومين كغيره من مئات التحف الفنية المقاومة الخالدة. والتي وراء كل واحدة منها حكاية وأية حكاية. والآن ونحن نستمتع بسماع هذه التحفة والفلتة الفنية الرائعة. “معلش” في كل وقفاتنا الاحتجاجية. ومسيراتنا التضامنية. وسياراتنا المكيفة. وريبرتوارات هواتفنا الذكية. وكلها طاقة تحفيزية وصمودية هائلة. وفيها من الإيمان بالقضية وزرع الأمل في مسارها الجديد ما فيها. كيف لا وقد أنقدها من هاوية الطمس ومفاوضات الاستسلام. ويبقى السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح. ماذا بعد الفن والجمال والطرب الهادف الأخاذ؟.

 

 

 

إن صرخة “الدحدوح”. “معلش”، وهي تلامس شغاف القلوب الإنسانية الحرة الأبية. وتستنهض همم المقاومين والمتعاطفين في كل مكان. لا تلامسها ولا تستنهضها من أجل الشفقة والرحمة. ولا من أجل الفرجة والمتعة فقط. بل من أجل العبرة والوعي. من أجل تحميلها جزءا من مسؤوليتها. وتذكيرها بجزء من واجبها نحو القضية. أقل أقل ما فيه دعم ومواكبة الطوفان وصموده الأسطوري. حتى يشارك المرء إخوانه الفلسطينيين بالقول والمعنى. في مقاومتهم وتحرير أرضهم وحماية أبنائهم. والدفاع عن مقدسات المسلمين في القدس والمسجد الأقصى. ما يوجب على الجميع واجب المشاركة الفعلية والدائمة. لا أن نترك الفلسطينيين يجاهدون وحدهم. ويتحملون التبعات الباهظة. لذلك بالنيابة عن الجميع. ولا نخجل من أن ندعي أننا معهم ونساندهم؟.

 

 

لذا نتساءل وقد وجب السؤال يا أمتي:

  • كيف نحن مع واجبنا في دعم ومواكبة الطوفان. ومنا من اعتاد ما لا يعتاد من مشاهد الظلم والعدوان؟.

  • ما رصيدنا من الدعم المالي والإعلامي والدعم النضالي بالوقفات والمسيرات. ومنا من أعيته أو يستثقلها..؟.

  • كيف هم علماؤنا مع تبيان الحقائق والجذور التاريخية للقضية والصراع. ومنا من يقول فلسطين ليست قضيتي؟.

  • كيف هم مثقفونا مع رفض التطبيع ومحاربة أنشطته المشبوهة في المؤسسات، الجماعات وحتى الجامعات..؟.

  • كيف هم سياسيونا مع الحد من سياسات الإلهاء والتيه في ملفات خارج القضية. كالغلاء والخرفان والمهرجان..؟.

  • كيف نحن مع مقاطعة المنتجات الداعمة للكيان والعدوان،. وقد بدأت تمحق كل موروثنا من الإنتــاجات الذاتية..؟.

  • كيف نحن مع تبيان أوجه النصر في المعركة. وهي أكثر من أن تعد أو تحصى. وكذلك الأوجه البشعة للعدوان؟.

  • أين نحن من التنسيق بين الهيئات والمؤسسات للعمل القانوني المشترك على وقف إطلاق النار وحماية الأبرياء..؟

  • أين نحن من تربية النشئ على كل هذه المعاني. وتشبعه بمثل هذا الفن الهادف. وإتاحته فرصة التعبير عن ذلك. ومنا من ينزع مجرد “الشال” والكوفية الفلسطينية عن التلاميذ. كأنهم دون كل شباب العالم الذين يتوشحونهما؟.

  • أين مفكرونا واستراتيجيونا من البحث عن الحل. و في غيابه ستبقى دوامة العنف تدور وتدور. ولكن إلى متى؟.

 

ولعل شيئا من هذا يجعلنا ننتصر على بعض الظروف. ونتجاوز بعض سياسات الإلهاء والتبخيس، التي تجبر المرء على الانشغال بقهره. في حين أن الانتصار على مثل هذا هو في الحقيقة أول الطريق لكل من يردد واعيا مع النشيد: “بدها صبر.. رغم القهر. خلوا العزائم فوق..”. أو يردد مع “الدحدوح” صرخته: “معلش، كله فداء فلسطين”؟.

التعليقات مغلقة.