أول جريدة إلكترونية مغربية تتجدد على مدار الساعة

الإنسان و الإنسانية المعطلة في زمن كورونا

بقلم : محمد حميمداني

 الانسان في زمن كورونا هائم مأسور بين سطوة الماضي و الحاضر و المستقبل ، المغلف بسلطة الغموض في كل شيء ، في زمن أصبح الحجر واقعه ، و الطوارئ سلطته الفعلية التي فرضت عليه سجنا قسريا بقوة سلطة الجائحة ، تهاوت القيم مع كل ارتفاع في نسب الجوائح ، ففقد الإنسان منطق وجوده ، و قيدت حريته بقوة الأمر المقضي بتركه ، و دفنت كل جهود الجنس البشري للسيطرة على الطبيعة و إخضاعها لرغباته ، تبدلت الآية ليصبح الإنسان نفسه خاضعا لسيطرتها محكوما عليه بلزوم المكان و طلب الإذن بإفراغه .

تبارت الكيانات في محاولة للسيطرة الكمية على الطبيعة و الكون و حتى الإنسان ، لكن التحولات الفجائية الناتجة عن جشع الرأسمال ، حولت الوجود المادي للإنسان إلى مجرد حضور سلبي خاضع لسلطة الرأسمال المالي و النفعية المتوحشة التي لوتت ، بل قتلت صورة الإنسان و وجوده و حتى ماهيته التي أصبحت مجرد سلعة مادية ، عنوانها السيطرة على كل شيء إلا ضمان استمرار الوجود البشري .

الوجود الإنساني ارتبط دوما بإرادة و هدف ، و هو جعل هذا الوجود ذا أهمية كبرى في حياة الإنسان ، و تصييره بقوة التحدي و التسخير ، ليصبح قابلا و مستحقا لأن يعاش .

الوضع الحالي الذي نعيشه في زماننا المعاصر هذا ، هو التعبير المرضي لقيم الرأسمالية المتوحشة ، فهي ليست سياسة ، بل إجرام كوني ضد كل القيم الجميلة و الراقية التي غرسها الإنسان خلال مساره الحياتي ، و وضع أسسها الفكرية مع عمالقة فلسفة الأنوار ، مع مونتسكيو و فولتير و هلم جرا .

فوحشية رأسمالية اليوم ، غدت كل النزعات الشوفينية ، و وطدت أركان الفردانية في كل شيء ، و قتلت الإنسان باسم كل شيء ، بل باسم الإنسان و الإنسانية نفسها ، و خلقت عبادة قوامها المال و السلطة و الجاه ، و ما دون ذلك يستحق الإبادة و التدمير ليس إلا ، عبادة للسوق و الاستقرار الذي يضمن تراكم الأموال و حرية دورانها ، لكن الجائحة بقوة إرادتها الطبيعية قلبت المعادلات كلها ، بل أنها خلقت توارنا كان مفقودا بتجديد آليات تدميرها ، فعرت واقع السوق و حملتنا إلى عوالم التناقضات التي تفجرت بأبشع صورها حتى داخل النظم الأقوى اقتصاديا ، كما كنا نتوهم ، ليتضح في النهاية أنها ليست إلا نظما عسكرية بوليسية ليس إلا ، فالرأسمال البشري أضحى مع الجائحة خارج التغطية ، و التوازنات المالية أصبحنا نبحث عنها من خلال قواعد التوازنات النفسية التي فجرتها آلاف الجثث التي رمى بها الوباء في أزقة و شوارع كبريات مدن و حواضر العواصم الكبرى ، اعتبرناها وهما أن تنبع من أقوى الاقتصاديات في العالم .

إن واقع اليوم ، و على الرغم من الآلام و الجراح سيشكل حتما إعادة ترصيف البيت الإنساني من جديد ، و سيفرز لا محالة تحولات نوعية على الصعيد الكوني ، اجتماعيا و بيئيا ، و سيوغل التوسع السياسي في فردانيته و انطوائه لدرء الخطر عن الذات قبل التفكير في الجماعات ، و هو ما تلمسناه جيدا في الدرس الإيطالي مع الاتحاد الأوروبي ، و سيحول منطق التفكير العالمي إلى مستويات البحث عن خدمة استمرار الإنسان داخل الدول المحاصرة بالوباء ، و الفارضة الحمائية في كل شيء ، ليتقلص بذلك حتما منطق الحروب و النزاعات ، و ينكمش الريع المالي الكوني و لو بنسب معدودة .

ربما يكون هذا الوضع أقرب إلى حقائق التاريخ ، لأنه يذكرنا بلحظة انهيار الإمبرياليات القديمة في “سانت هيلين” ، تلك الجزيرة الصغيرة التي نفي إليها “نابليون” ، فهل تسجل كورونا بشكلها القديم والمتجدد نقطة تحول لانهيار نظام السوق المتوحش الإمبريالي ، لصالح ولادة الإنسان ، و عودة القيم الإنسانية من جديد ؟ كل الدلائل تشير إلى ذلك ، و يبقى التاريخ هو ديدن الفصل المستقبلي .                  

 

التعليقات مغلقة.