أول جريدة إلكترونية مغربية تتجدد على مدار الساعة

هل حملت مدونة الأخلاقيات القضائية تطلعات الهيئة القضائية ؟

محمد حميمداني

اعتبر إصلاح القضاء من أهم الإشكالات و التحديات التي تواجه أي إصلاح مؤسساتي مستقبلي ، لارتباطه بكل دواليب التنمية الشاملة ، فهل حملت مدونة الأخلاقيات القضائية تلك التطلعات المنتظرة منها سواء من قبل الجسم القضائي ، أو انفتاح القضاء على محيطه المجتمعي و التنموي ؟ الأكيد أن المدونة حاولت مقاربة هاته الإشكالات الهامة لكنها بقيت حبيسة العموميات و الخلط ما بين السلوك الفردي و المقتضيات التنظيمية القانونية اللازمة لضبط كل العمليات المرتبطة بمهام السلطة القضائية.

فالقضاء لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يرتقي في مهامه و يعبر عن تطلعات الجميع إلا من خلال انفتاحه على المحيط العام ، و ذلك بجعله قضاء مواطنا ، يعبر عن الدينامية المجتمعية الداخلية و يعكسها من خلال تطوره النصي و يتفاعل معها من خلال ملاءمته للنصوص القانونية و التنظيمية مع متطلبات هذا المنحى الانفتاحي على المجتمع و الاقتصاد و التدبير الضابط لتوازنات المجتمع في شموليته .

و ضمن هذا النسق يمكن أن نتحدث عن استقلالية القضاة ليس في إصدار الأحكام وفق النصوص و القناعات القانونية تحقيقا للعدالة المجتمعية و لمساواة جميع الأفراد أمام روح و جوهر القانون ، و التعبير عن الرؤى و التطلعات التي يرونها كفيلة بتحقيق هاته الطفرة النوعية في مضمار بناء عدالة حقيقية ، و التعبير عن هاته الآراء بحرية و جرأة ، و التواصل مع وسائل الإعلام ، بعيدا عن القيود التي حاولت المدونة وضع القاضي تحت سلطتها من خلال فرض الحصول على الإذن المسبق من الرئيس المنتدب أو من رئيس النيابة العامة ، لإجراء مقابلات أو تصريحات صحافية ، و هو ما يعد انتهاكا لحق القاضي في التعبير عن مواقفه ، و الإدلاء بآراءه بكل حرية في كل القضايا المرتبطة بالمجتمع باعتباره مواطنا أولا و قبل كل شيء ، و من الضروري أن يساهم في بناء هذا المجتمع من موقع الإنسان الإيجابي في عملية البناء ، لا أن يحول إلى مستقبل لرسائل التغير و التطور التي تجانب روح وجوده باعتباره أهم عنصر في باب الاجتهاد القضائي .

و هو ما يعارض منطوق الفصل 47 من النظام الأساسي للقضاة ، الذي أكد في فقرته الأخيرة على أنه يمكن للقاضي المشاركة في الأنشطة و الندوات العلمية ، شريطة ألا يؤثر ذلك على أدائه المهني ، مع ترك المجال للقاضي للتعبير عن مواقفه و التي تبقى وفق نص القانون آراء شخصية فقط ، و لا تحمل رأي جهة رسمية إلا إذا كان مرخصا لها بذلك .

و هو ما عملت المدونة على تعطيله من خلال إنزال نوع من الخنق النصي لتعاطي القاضي مع الإعلام ، لأن المطلوب هو انفتاح مؤسسة القاضي على السلطة الرابعة و المجتمع و ليس تقييده بأي شرط معطل لوضوح هذا النص القانوني ، و التعبير عن معاناة و تطلعات القضاة و واقعهم المهني بدل الغوص في العموميات و التي تضبب حضور القاضي ضمن الفضاء العام ، و هو ما يعكس نوعا من الارتجالية في إنزال المدونة و التي لم تعكس تطلعات المهنيين ، و لا عبرت عن تطلعاتهم و أمانيهم في إطار قانوني يعكس نوعا من التشاركية في صياغة ديباجته ، و جعلها حاملة لآمال و تطلعات جميع القضاة ، خاصة و أنها أغلقت كل إمكانية للطعن في القرارات ، و هو ما كان مأمولا أن يتم تضمينه في ديباجة المدونة ، عملا بما هو منصوص عليه في النظام الداخلي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية .

موقف عكسه نادي قضاة المغرب ، من خلال تأكيده على مطالبته في مناسبات عدة و من خلال عدة بلاغات بضرورة إشراك الجمعيات المهنية للقضاة أثناء كافة مراحل إعداد هذه المدونة ، مشيرا إلى أن النادي سيتخذ موقفه من المدونة خلال اجتماع مكتبه التنفيذي المقبل .

و ارتباطا بموضوع حق القضاة في التعبير عن آرائهم و مواقفهم بكل حرية ، كان المجلس الأعلى للسلطة القضائية قد استدعى مجموعة من قضاة الرأي للمثول أمام المجلس التأديبي للنظر في قضية متعلقة بالتعبير عن الرأي عبر وسائط التواصل الاجتماعي ، في إطار ما أصبح يعرف إعلاميا بقضية قضاة الرأي .

و هو القرار الذي أثار استياء القضاة ، و نادي قضاة المغرب ، المتابع أعضاء منه على ذمة الملف ، حيث قال رئيس النادي “عبد اللطيف الشنتوف” ، إن النادي ، سيواصل الدفاع عن القضاء و القضاة ، و عن حق القضاة في ممارسة كافة حقوقهم المنصوص عليها في القوانين التنظيمية للسلطة القضائية ، و في مقدمتها ممارسة حرية التعبير ، و إنه سوف يقوم بالدفاع القانوني عن القضاة المحالين وفق ما ستقرره أجهزة نادي قضاة المغرب .

مطالعة ما احتوت عليه مدونة القيم القضائية‮ ‬”‬السلوك القضائي” الذي يجب أن‮ ‬يكون سلوكا تطبعه الايجابية من خلال أخلاقه و سيرته و سلوكه الإنساني‮ ‬و المهني‮ … ، و كل هذا لن يتحقق إلا من خلال سيادة الحكامة في المجال القضائي كما الاقتصادي و الاجتماعي و التنموي … ، و لن تتحقق هاته الحكامة إلا إذا اقترنت بالشفافية و المساواة و المشاركة و المحاسبة ، حيث نص دستور 2011 على الحكامة القضائية و التي حددها في تحمل الشأن القضائي بكل مسؤولية من طرف مسيرين مؤهلين في إطار تنظيم هيكلي محكم و شفاف يتمثل في الاستعمال الأمثل للموارد بهدف تقديم خدمة عمومية للمواطن و يقترن بالمساءلة و المحاسبة ، و عليه فان الدستور يحدد المبادئ العامة للحكامة الجيدة للإدارة القضائية و التي تعتبر من ضروريات بناء دولة الحق و القانون ، و ذلك لارتباطها بحقوق الأفراد المتقاضين من جهة ، و ارتباطها بإستراتيجية الإصلاح من جهة أخرى ، سواء على مستوى التنظيم و التدبير أو على مستوى الهيكلة .

هاته الأهداف الكبرى التي سطرها دستور 2011 ، و أشارت إليها مجموعة من الخطب الملكية ، عملت المدونة في صيغتها الحالية على تحنيطها ، و هو ما يتطلب تحديدا ملموسا لمسافة العلاقة التي يجب أن تربط الوزارة الوصية بالجسم القضائي ، و هو ما يقتضي تحديدا دقيقا للاختصاصات و الصلاحيات التي ستناط بوزارة العدل بالنظر الى المستجدات الدستورية ، لا سيما فيما يخص إرساء سلطة قضائية مستقلة بذاتها .

و من هنا يصبح استقلال القضاء هدفا ساميا لتحقيق العدالة ، و ليس شطحات لهندسة شكل فارغ من الجوهر الضروري توفره لتأسيس فعل مستقل و هادف و نافع ، وفق ما نادت به المجتمعات و الشعوب الحرة ، و إن كان دستور المملكة لسنة 2011 قد كرس استقلالية السلطة القضائية ، و التي وضع أسسها الخطاب الملكي ل 9 مارس 2011 .

و تبعا لذلك أصبح هذا المبدأ الدستوري حقا أصيلا يرتبط بحماية حقوق الإنسان ، و يضع تبعا لذلك الهياكل و الإجراءات التنظيمية الواجب توفرها لتأطير فعال للعلاقة بين وزارة العدل و السلطة القضائية في ظل مبدأ الفصل بين السلطتين مع إعمال نوع من التعاون بينهما لضمان أداء جيد لمرفق القضاء ، فمجرد التنصيص في الفصل 107 على أن السلطة القضائية مستقلة فذلك يشكل تقدما بالنسبة للعدالة ، و هو المطلوب دفعه للأمام و تعميقه إيجابيا ، لا إقامة حالة وضع العربة أمام الحصان في الشكل القائم ممارسة ، و الذي يحد كل إمكانية لتحقيق استقلال قضائي فعلي للقضاة في اتخاذ قراراتهم و التعبير عن آرائهم و تصوراتهم وفق القناعات التي يرونها مناسبة و ملائمة في فضاء كله حرية بعيدا عن لغة التلجيم و التحنيط باسم الانضباط الذي لا يعني إلا المزيد من التخلف عن مسايرة الركب التنموي الشامل ، علما أن الفصل 27 من الدستور قد أكد على ضرورة ضمان الشفافية و الولوجية للإدارة و للمعلومة بالنوعية الملائمة ، و إفساح المجال أمام الجميع للإطلاع على المعلومات الضرورية مما يساعد على اتخاذ القرارات الصالحة و توسيع دائرة المشاركة و المراقبة و المحاسبة …، بما يعني تجاوز منطق التسيير البيروقراطي الذي احتضر في ظل ألفية العولمة التي أكدت على نهج الديمقراطية التشاركية النفعية ، و الذي وسع ضمان الحكامة و الذي لم يعد يقتصر على مؤسسات الدولة فقط ، بل جعل المجتمع المدني مسؤولا أيضا في ضمان ترسيخ مبدأ الحكامة في المؤسسات العمومية .

التعليقات مغلقة.