أول جريدة إلكترونية مغربية تتجدد على مدار الساعة

أرىٰ فيه صُورتي خلال طفولتي البَعيدة والبَئيسَة…

بقلم الأستاذ حسن الرّحيبي
  ذات يوم اثنين من سنة 1962 لاحَظ المُعلّم القدير سي عبد السّلام السّلّومي قراءَتي المُهترئة والمُمَزّقة ، من سلسلَة « اقرَأ أحمَد بوكمَاخ » الجزء الثّاني . فأخرجني إلى السّوق كي أبحث عن أبي ليشتري لي واحدة جديدة ..لم يكن أهلنا مُستعدّين لمثل هذه الأشياء الهامشية أو التّافهة في نظرهم ، لأنهم يرفعون دعاوىٰ قضائية لنيل حقوق لأقاربهم ، أو يهتمّون بشؤون حياتهم وزراعتهم ، لذلك لم أكن أجرؤ على مفاتحتهم من أجل شراء ولو دفتر أسَد من 12 ورقة ب 3 ريالات حين تكتمل أوراق دفتر المادّة المعنية … 
كنت أعمَل بجدّ واجتهاد عند هذا المعلم الوافد من واد زمّ كأغلب المعلمين باثنين الغربية ، والذي غيّر تفكيري وتصوري رأساً على عقب بأسلوبه الخاص وطريقته المتميزة ، حين كان يحكي لنا حكايات جميلة من وحي الخيال ، لكنها ذات دلالة أخلاقية كبيرة جعلتنا ننظر للحياة من زوايا مختلفة مثل حِكاية الطّائر الذي اصطاده قناص ووضعه بقفَص في قصره الفسيح الجَميل ، لكن الطائر المُغترب ظلّ كلما جُنّ اللّيل يردّد أغنيةً حزينة  أيقظت مواجع كلّ من في البيت وأحزانهم :
  بلادي ولو جَارت عليّ عزيزةٌ
                  وقومي ولو ضنّوا عليّ كرامُ !
  تأثر كل من في البيت بحنين الطائر الحَارق وأغنيته الشّجية الحَزينة .. فقرّر إطلاق سَراحه ، وركب حِصانه متتبّعاً خطواته حتى بلغ شاطئاً موحشاً خلتُه شاطيء سيدي كرّام الضّيف الذي كانت تقصده أمّي كلما ضاق بها الحال بأرجاء الصّديگات فنتبعها نحو البحر لنجد طائراً شبيهاً له بمخيّلتي ، مختبئاً بطاقة الشّمع المحترق والذّابل ،  بضَريح سيدي  بوالشّكوات ، وكلما حاول الصيّاح أو الاحتجاج احمرّت عيناه بشكل مُتوعّد مُخيف ..
   جلس الطائر الشّاعر على رأس صَخرة بالشاطيء  كلما غمرها الموج وداهمها يحلّق ثم يعود ! ورغم ذلك ظل عاشقاً لبلاده رغم قساوة ظروف العيش بها !
 كان المعلّم المحب لمهنته بعشق وهُيام من منطلق مبدئي  : لا يمكن ممارسة مهنة والنّجاح فيها دون حبّها وحبّ جميع أطرافها وعناصرها ! أو كما قال الإنجليز :
To teach is to love
  يحدّثنا مُفتخراً بتلميذ اسمه بوشعيب كان يدرّسه في السنة الماضية بمدرسة  الخوالدة باولاد سبيطة  ، ولا يكفّ عن التنويه بجديته واجتهاده ، حتى خيّل لنا بأنه تلميذ مثالي لا يمكن مضاهاته أو منافسته ومع ذلك استطعت الاقتراب من صورته المشكّلة عنه لدىٰ الأستاذ  الناجح ، حين لخصت له مغزى قطعة « الله يرانا » بلغة عربية جميلة مع بلوغ جوهر النص ، إذ حتى حينما نعتقد أن لاَ أحد رآنا لما ارتكبنا جرماً ما فإن الله قد رآنا ..صفق التلاميذ ، لكنه لم يرد أن يرى هذه النّباهة تضيع بامتلاكي لأشياء رديئة وأدوات مُهترئَة ، في وقت كان أبناء زرݣ الأغنياء يمتلكون أحقاقاً صغيرة رسم على ظهرها نمر ، وضعوا بداخلها قطع الطّباشير والأقلام الملوّنة .. بعدما أفرغها آباؤهم من قطع القرطاس خلال رحلات صيد قصيرة حول بركة الصّبيح الهائلة  ..هكذا أوّلتُ دافع إخراجه لي لشِراء قراءة جديدة تليق بمقامي المتميّز ، رغم فقري ومظهري البئيس آنذاك !
  كان ثمنها آنذاك درهمَين اثنين ، في وقت عزّ فيه الحصول على الدراهم بسبب الكساد ورخص منتوجاتنا من الزرع والدواجن والمواشي..
لم أجد أبي في السّوق فذهبت عند صديق له يسمى العلوَة من دوار “المناقرة” قرب خميس الزمامرة يبيع التّين المجفّف أو الشّريحة ..
لم يكن ثمنها آنذاك يتجاوز 8 ريالات ومع ذلك رأيته يلصق كمّاً من الشّريحة تحت كفّة الميزان كي يختلس كمية موازية من كل زبون رغم ضآلته أو تفاهته : ضعُف الطالب والمَطلوب ..
لم أقلها لأحد ، لكن لم أعد أقدّره كما كنت حين أرىٰ طيبوبته عند مبيته عندنا فوݣ نادر الهايشَر خلال بعض اللّيالي السّابقة على السّوق ..
 ذهب معي عند البريّق واشترىٰ لي القراءة حتى أتى أبي وعوّضه عن ثمنها .. وظلت من بين التجارب والذكريات الجَميلة والعبَر القاسية التي اكتسبناها منذ بداية حَياتنا الطّفولية الأولىٰ ..

التعليقات مغلقة.