وجدت أنه من المستحيل تقريباً النظر بعيدا عن صور المذبحة التي اطلقتها القوات الروسية على المدن الأوكرانية المحتلة، تغلبت على الخدر،فأنا أقوم بتكبير صور الضحايا بشكل ماسوشي، ودراسة كل وجه، او كل ما تبقى منه، كل ما يمكنني التفكير فيه هو: ” لقد فعلوا هذا من قبل، إنهم يفعلون ذلك مرة أخرى”.
إن القصف العشوائي، والنهب، والادلة على الاغتصاب والتعذيب والاعدام، وفوق كل شيء، الشعور بالحماس الذي ترتكب به جرائم الحرب هذه مألوف بشكل مؤلم.
في الأيام الأخيرة، ظل عقلي يتجول في صورة أخرى، التقطتها صديقتي، ناشطة حقوق الإنسان ” ناتاليا استيميروفا ” قبل ثمانية عشر عاماً في قرية “ريجاخوي” في الشيشان، تظهر جثث خمسة أطفال صغار، بشرة الوجه، جميع الاشقاء، مصطفين حسب الطول، اكبرهم يبلغ من العمر خمس سنوات، والاصغر – توأمان – لم يكن حتى اثنى عشر شهرا، قتل الأطفال وامهم، في قصف متعمد من قبل الروس في تاسع ابريل 2004.
كانت هذه احدى الجرائم العديدة التي لم تتم محاكمة الجيش الروسي على ارتكابها باسم “مكافحة الإرهاب” في الشيشان، كانت صديقتي تأمل أن تنبه هذه الصور العالم إلى ما يمر به المدنيون الشيشان، لكن دون جدوى، بعد سنوات ،جاء دورها، حيث التقط أحدهم صورة محببة لجسدها الذي لا حياة له والمثقل بالرصاص ملقى على جانب الطريق و سط العشب الذي حرقته الشمس، قاتلاها يسيرون احرارا، هذا هو تراث روسيا في الشيشان.
الحربان اللتان خاضتهما روسيا ضد الشيشان بين عامي 1994 و1996 ، و1999و2009 ، دمرت الجمهورية وخلفت ما يقارب من (ثلاثة مائة ألف) قتيل و ما بين (ثلاثة آلاف) و(خمسة آلاف) شخص في عداد المفقودين، تعتبر الشيشان اليوم مجسما مصغرا بشعا لما يريد ” فلاديمير بوتين” تحقيقه في اوكرانيا: مكان منزوع مخالبه ومهدىء وسكانه محطمون ومروعون إلى استسلامهم بوحشية قيادتها الصديقة للنظام؛ “رمضان قديروف”، “التنين الصغير” ل “بوتين”، كما وصفته زميلتي الراحلة “انا بوليتكو فسكايا”، يواصل تنفيذ اوامر الكرملين، ويهدد شعبه ويرسل رجاله للقتال في اوكرانيا، كما يشتبه في أنه وراء عمليات قتل متعددة لمعارضين لنظامه.
قبل قصف مستشفى الولادة في “ماريوبول”، كان هناك قصف لمستشفى الولادة في”جروزني”، وسوقا مزدحمة، مما أسفر عن مقتل ما يقدر ب 100-120 شخصا في عام 1999، قبل “بوتشا” و”اربين” كان هناك “ساماشكي”، حيث في نفذت في السابع من ابريل 1995، روسيامن خلال القوات “زاتشيستكا” عملية تنظيف أطلقت العنان لأهوال لا توصف على الابرياء، أطلق الجنود النار على المدنيين واغتصبوا النساء واشعلوا النار في المنازل، قتل ما لا يقل عن (مائة وثلاثة) في ذلك اليوم، والقائمة تطول: توفي الزملاء والزميلات “ألدي،كاتيريورت، كومسومولسكوي،...”، الكثير من المجازر، الكثير من الأرواح المحطمة لا يمكن حصرها.
هذا يطرح السؤال التالي: مع كل هذه الفظائع الموثقة جيدا التي ارتكبتها روسيا، كيف تم السماح بحدوث ذلك مرة أخرى؟؟
كان أسلوب العمل الروسي في الشيشان بمثابة مخطط للعقدين المقبلين من استراتيجية الكرملين العسكرية والسياسية، وهي منهجية مروعة لكسر إرادة السكان المضطربين في السعي لتحقيق مصالحهم الامبريالية.
في السنوات التي تلت ذلك، رأينا – من “تسخينفال” إلى “حلب” ، ومن “شبه جزيرة القرم” الى “جمهورية إفريقيا الوسطى” – استعدادا لنشر العنف مع الافلات من العقاب في جميع أنحاء المسرح العالمي.
بينما خاطر النشطاء مثل صديقتي بحياتهم لجمع أدلة على جرائم الحرب في الشيشان، تجاهلهم القادة “الغربيون البراغماتيون”، ورحبوا بتدفق النفط والغاز والاموال الروسية، على الرغم من بعض عبارات التعاطف، تم رفض القضية إلى حد كبير باعتبارها “الشؤون الداخلية” للدولة الروسية.
داخل روسيا، نجح دعاة الكرملين في نسج الاساطير حول “الإبادة الجماعية للروس” في الشيشان واستفادوا من “الحرب العالمية على الارهاب “لتجريد الشيشان من انسانيتهم وجعل الجرائم ضد المدنيين تبدو مبررة، يتم الآن استخدام تكتيكات دعاية مماثلة لتصوير الاوكرانيين على أنهم “نازيون جدد” او “باندروفايت”.
بعد بدء غزو أوكرانيا، تحدث العديد من الليبراليين في موسكو عن عدم معرفتهم كيف يعيشون مع انفسهم؟ على الرغم من أن معظمهم بدا وكانهم عاشوا بشكل مريح مع تصرفات حكومتهم حيث قامت بذبح وارهاب سكانها (المسلمين) منذ عام 1994، لم نرى مثل هذا التأمل الذاتي، بينما كانت القنابل الروسية تمطر على المدن السورية أيضا.
إنه لأمر محير أن الكثيرين اصيبوا بالصدمة من سلوك “بوتين” الحالي عندما أظهر ميوله الإستبدادية منذ البداية، الامر المحير أكثر هو أن روسيا تعرضت لصفعة على معصمها بعد ضمها غير القانوني “لشبه جزيرة القرم”، وسمح لها بإستضافة انقلاب العلاقات العامة الذي كان كأس العالم 2018، اثناء شن الحرب في “دونباس”، الفظائع التي ترتكبها روسيا في اوكرانيا تتويجا لعدوان وعنف بلا رادع تم تمكينه او تجاهله لعقود.
التعليقات مغلقة.