زياد ماجد
دخلت حرب الإبادة الاسرائيلية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة شهرها الخامس، ولا مقترحات واضحة بعد عند أي من الأطراف الإقليمية والدولية لِسبل وقفها والتعامل السياسي مع المرحلة التي ستليها.
ورغم بعض الأفكار التي بدأ الأمريكيون بتسريبها حول خطواتهم الممكنة في الأشهر المقبلة، فإن لا شيء يُظهر حتى الآن قابليّة أفكارهم للتطبيق. فالأخيرة قوامُها اعترافٌ قريب بالدولة الفلسطينية من دون توقّف عند حدودها، بما يعني جعل الاعتراف المسبق مقدّمةً لمسار تفاوضي جديد في المنطقة ثم ترك هذا المسار يخوض في «التفاصيل» الميدانية وفي شكل الدولة وتُرابيّتها ونهائيتها السياسية، على ما نُقِل عن أنطوني بلينكن. وهذا ترفضه إسرائيل، في ما تدعمه السعودية ومصر والأردن، ويُرجّح أن تتبنّاه بريطانيا ومعظم الدول الأوروبية. بموازاة ذلك، تبحث أمريكا في شكل إدارة مرحلةٍ انتقالية في غزة تعقب الانسحاب العسكري الإسرائيلي «التدريجي» وتُتيح للسلطة الفلسطينية، بعد توسيع هياكلها بمساعدة عربية، أن تلعب دوراً أساسياً فيه، بما يحفّز دولاً وهيئات مانحة على البدء بتمويل «إعادة إعمارٍ» للقطاع المنكوب.
على أن الأفكار المتداولة هذه، من دون جدول زمنيّ صريح لها، تفترض أن انتهاء الحرب الدائرة بات وشيكاً، وهذا ما لا تُبرزه وقائع الميدان ولا التصريحات والمواقف الإسرائيلية. كما أنها تفترض أن العودة إلى المفاوضات ستكون ممكنة، من دون الإشارة إلى هويات المتفاوضين وإلى مصير باقي الأطراف. فلا شكل توسيع السلطة الفلسطينية وآلياته واضح، ولا مستقبل حركة حماس مُشار إليه، ولَو أن الأمريكيين يقرّون باستحالة قضاء إسرائيل عليها. ولا فرضية بقاء نتنياهو في السلطة عبر إطالته أمد الحرب والتوتّرات مأخوذة بعين الاعتبار، مع ما يعنيه الأمر من استحالة قدومه إلى مفاوضات «سلام» جدّية تُفضي إلى «حلّ الدولتين» المزعوم.
فوق ذلك، قد تفرض وتيرة المعركة الانتخابية الرئاسية في أمريكا نفسها خيارات تقيّد الإدارة الحالية (ما أن يصبح ترشيح ترامب رسمياً عند الجمهوريين)، وتمنعها من أي مجازفة سياسية غير مضمونة النتائج. ولا شكّ أن اليمين واليمين المتطرّف في إسرائيل يعِيان مدى تردّد الإدارة في واشنطن في الإعلان عن أي خطّة سلام جديدة وخشيتها من الفشل، ويراهنان على الوقت لتبديد الضغوط التي قد تأتي من طرفها.
استيطان وتدمير و«عودة»
يوصلنا هذا إلى البحث في معالم المشروع الإسرائيلي اليميني المتطرّف، الذي يبدو للبعض جنوناً، لكنه جنون يتحوّل مع الوقت إلى سياسات وممارسات ملموسة، من خلال التدمير الممنهج لغزة ومن خلال الاستمرار في حرب الاستيطان ومصادرة الأراضي في القدس الشرقية والضفة الغربية.
ويمكن هنا، انطلاقاً من متابعة أدبيات هذا اليمين ممثّلاً بحزبَي الصهيونية الدينية «مفدال» الذي يقوده وزير المالية بتسلائل سموتريش و«القوة اليهودية» بقيادة إيتمار بن غفير وزير الأمن القومي، وعدد من الشخصيات الدينية المتشدّدة مثل إسحق غولدنوكف وزير البناء والإسكان وقادة المنظمات الاستيطانية مثل يوسي داغان، الوقوف على أولويات المشروع التي باتت متدحرجة، والتي تجد لها أصداءً لدى بعض وزراء ونواب كتلة «الليكود»، ولَو لأسباب انتهازية.
الأولوية الأولى هي تسريع تهويد القدس ودفع أكبر عدد من فلسطينيّيها إلى مغادرتها وتحويل دخول المستوطنين و«الزائرين» اليهود إلى المسجد الأقصى إلى شأن يومي يصير مع الوقت بديهياً ويقوّض استثنائيته وإدارته الإسلامية (الأردنية)، بالتوازي مع استمرار الضغط على الأوقاف المسيحية والسعي للسطو «المقَونن» على بعض أملاكها.
الأولوية الثانية هي توسيع مستوطنات الضفة الغربية ودعم المستوطنين فيها عبر المزيد من الموازنات وتطوير البنية التحتية المخصصة لهم وتعميم الأسلحة عليهم ووضع عدد أكبر من وحدات الجيش لحمايتهم، تمهيداً للسيطرة الكاملة على الضفة والضغط لاحقاً لضمّها.
الأولوية الثالثة هي خطة كانت كامنة وصارت معلنة منذ أسابيع، مفادها «العودة» إلى غزة بعد طرد سكّانها أو القسم الأكبر منهم وإعادة بناء المستوطنات فيها، تكفيراً عمّا يسمّيه اليمينيّون «الخطأ التاريخي» لأرييل شارون العام 2005 عند تنفيذه الانسحاب العسكري من القطاع وإخلائه المستوطنات، لا سيّما تجمّع غوش قاطيف.
الديموغرافيا الفلسطينية بوصفها العقبة الأبرز
لكن اليمين الاسرائيلي المتطرّف يدرك أن العقبة الأبرز أمام تحقيق حلمه بإسرائيل الكبرى، تلك التي أشهر حليفُه نتنياهو خريطتها في الأمم المتحدة العام الماضي، وسبقه سموتريش في استخدام واحدةٍ ضمّ إليها الأردن خلال مؤتمر له في باريس (في استعادةٍ لخريطة كانت منظمة «إرغون» تعتمدها في ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي)، هي وجود سبعة ملايين فلسطيني فوقها، أي في فلسطين التاريخية، وهو ما يوازي تقريباً عدد الإسرائيليين اليهود في الأرض إياها. ويدرك اليمين المتطرّف أيضاً أن هؤلاء الفلسطينيين ما زالوا رغم الضغوط والقتل وسرقة ممتلكاتهم وتقطيع أوصال مدنهم وبلداتهم ومنعهم من التنقّل بحريّة وسهولة عصيّين على التطويع ومتمنّعين عن المغادرة.
لذلك، تمثّل حرب غزة «فرصة استثنائية» لتعديل ديمغرافيّتهم على نحو كبير، تصل ارتداداته السياسية وآثاره لاحقاً إلى الضفة والقدس. وليس كلام سموتريش مثلاً عن أن «بقاء مئةٍ إلى مئتي ألف فلسطيني في غزة مقبول» (من أصل المليونين والمئتي ألف حالياً!) معزولاً عن هذا السياق، ومثله كلام عدد من النواب في الكنيست من كتل مختلفة اعتبروا أن إيواء دول العالم لسكّان غزة مسألة ضرورية ومطلوبة. وبلغ الأمر بالنائبين داني دانون ورام بن باراك حدّ كتابة مقال في «وول ستريت جورنال» اعتبرا فيه أن استقبال الدول الغربية للغزّاويين سيحسّن من أحوال الأخيرين و«يُظهر التعاطف الإنساني» معهم كما حصل مع مئات الآلاف ممّن نزحوا نتيجة صراعات وحروب، خاصةً من يوغوسلافيا السابقة.
وخطّة ترحيل سكّان غزة أو عدد كبير منهم غير معزولة بدورها عن عمليات التدمير غير المسبوق بعنفه وحجمه الذي تتعرّض له الأحياء السكنية، ولا عن عمليات حرق البيوت التي لم تتهدّم ومعها الأراضي الزراعية في شمال القطاع ووسطه وتلويث تربته، بما يجعل العودة إلى العديد من المناطق شديدة الصعوبة في المدى المنظور. وتُعطَف على الفظاعة المذكورة الحملة الممنهجة والمسعورة على منظمة «الأونروا» (وعلى «الأمم المتحدة» كمؤسسة وعلى أمينها العام)، لكونها المانح الأهم لفلسطينيي غزّة، والضامن القانوني لحق العودة، والمجسّد لما تبقّى دولياً من دعم مُمأسس للاجئين.
لهذه الأسباب مجتمعة، صارت حرب غزّة اليوم التي تُخاض بإيديولوجيا اليمين المتطرّف وتوحشّه الأكثر خطورةً على الوجود الفلسطيني في القطاع من جميع الحروب السابقة التي عرفها منذ النكبة. ولهذه الأسباب أيضاً لا غنى عن اعتبار وقف إطلاق النار أهمّ مطلب إنساني وسياسي الآن، خاصة مع تزايد احتمالات الهجوم على رفح وما قد يُحدثه من تهجير جماعي كبير باتجاه مصر. ولهذه الأسباب وغيرها أخيراً، يجوز القول إن الفلسطينيين دخلوا منذ أشهر مرحلة جديدة من مراحل كفاحهم المرير والطويل للاستمرار والبقاء في أرضهم وذوداً عنها…
*كاتب وأكاديمي لبناني
التعليقات مغلقة.