تتسم العلوم العربية بالتداخل والتشابك، إذ إن كل علم لا بد أن يتلاقى مع غيره في جزئية من الجزئيات، وذلك نابع من كون بعضها قد نما ونشأ تحت علم آخر، ونذكر هنا علمي النحو والبلاغة، فالأول كانت الغاية منه هو تبيان الخطأ والصواب في الكلام، وقد احتيج إليه حينما اتسعت دولة الإسلام وفارق العرب مواطن الفصاحة ودخل العجم في الإسلام، فانتشر لذلك اللحن والعجمة وكثُر ذلك حتى مس آي القرآن، عندها هب العلماء من أمثال “أبو الأسود الدؤلي”، و”نصر بن عاصم الليثي”، و”عنبسة الفيل”، و”ابن هرمز”، للتقعيد لكلام العرب ووضع قواعد لمن رام الحديث على طريقتهم ، وقد توجت تلك الجهود بأن وُضع أول كتاب خاص بمسائل النحو وقضاياه، وهو كتاب “الكتاب” لصاحبه سيبويه الذي أصبح بعد ذلك دستورا للنحاة يرجعون إليه في كل المسائل .
وقد أدت الطريقة التي علل بها سيبويه بعض القضايا النحوية إلى نشوء خلاف حاد بين النحاة أدت بهم إلى أن يؤسس كل فريق منهم تيارا خاصا به، أطلق عليه اسم المدرسة النحوية، التي كانت الخلفيات الدينية دائما توجهها في تعليلاتها، ومن أهم تلك المدارس مدرسة البصرة ومدرسة الكوفة، ومن زعماء المدرسة الأولى “الخليل بن أحمد الفراهيدي”، أما الثانية فهو “الكسائي”، وقد كان لهاتين المدرستين أثر بالغ في جعل الدرس النحوي ينضج ويتطور؛ وذلك بالتدقيق في المسائل التي قال بها سيبويه في كتابه، من خلال التبويب والتصنيف، وهم في ذلك ـ أي النحاة ـ يشيرون بين الفينة والأخرى إلى بعض المسائل التي تخرج عن إطار عملهم، وأقصد هنا، إثارة بعض المعاني التي تدل عليها بعض البنيات والتراكيب حينما يقع فيها خروج عما قرروه من قواعد، أي أنها تتجاوز ما هو سطحي في الكلام لتبحث في معناه وفحواه.
ومن هاهنا فطن العلماء إلى أن الكلام لا تقف صحته عند حد أن يوافق طريقة العرب بل تتجاوزه إلى أن يسائل معناه ويستوضحه، وقد نمت هذه الظاهرة مع ظهور الفرق الإسلامية، خصوصا مع المعتزلة الذين حاولوا تأويل النص القرآني من جهة تتماشى ومعتقدهم، وعليه ألف الجاحظ كتابا سماه بـ”نظم القرآن” (من الكتب المفقودة)، ’’وشيئا فشيئا أخذ المشتغلون بالبلاغة العربية ينحون بها منحى التخصص والاستقلال ‘‘.
وبناء على هذا الإرث استطاع عبد القاهر الجرجاني في كتابيه الأسرار والدلائل، أن يصوغ من خلالهما نظرية “النظم” التي رسم بها معالم علم المعاني، التي على إثرها استحق ’’مكانة كبيرة في تاريخ البلاغة‘‘، لكونه انطلق في صياغة نظريته من المستوى النحوي المعياري وصولا إلى دلالات التراكيب ومعانيها .
ويعتبر علم المعاني من أقرب الأبواب البلاغية إلى النحو، لكونهما جميعا يدرسان الجملة، ’’فعلم النحو يدرسها من حيث البناء والإعراب، وأما علم المعاني فيدرسها من جهة التركيب لا غير‘‘ ولا يمكن الحديث عن التركيب من غير وصف للحالة التي جاءت عليها الكلمات المكونة له، فبذلك الوصف سيتضح المعنى الذي تحيل عليه، وبهذا أتم الجرجاني اللبنات الأخيرة في صرح البلاغة، لأن من جاء بعده من العلماء اكتفوا بما قدم وأقبلوا عليه بالشرح والتلخيص والإيجاز.
ومن بين المسائل التي لقيت عند النحاة والبلاغيين اهتماما هي مسألة التقديم والتأخير، التي تناولها كل منهم من وجهته الخاصة، فالفريق الأول اعتبرها طريقة تزيد اللغة مرونة وليونة، وقالوا عنها تارة بالجواز وأخرى بعدمه، في حين ربطها الفريق الثاني بالمتكلم وبالحالة النفسية التي يكون عليها، ومن هذا المنطلق تمكنوا من تحديد مميزاته ومدى قدرته على جعل الكلام حينما يخرج عن الترتيب المعهود، يحيل على دلالات جديدة يُتوصل إليها بصفاء الذهن وبإمعان النظر فيه، ويزداد أثر التقديم والتأخير اشتدادا حينما يحضر في الشعر؛ لأن الشاعر لا يريد من حضوره زخرفة القصيدة فقط، بل يتجاوز ذلك إلى أنه يودع فيه ـ أي في التقديم والتأخيرـ إلى جانب الموسيقى والنظم حالته النفسية والوضع الذي يكون عليه حين نظمه للشعر؛ لأنه ـ أي الشاعرـ يبذل جهدا مظنيا في اختيار الكلمات التي يوظفها، والجهد نفسه يُبذل في اختيار التراكيب التي ستجعل تلك الكلمات المختارة تؤدي وظيفتها على أحسن وجه، ذلك الأثر هو ما سيجعل المتلقي يفهم مراد الشاعر ويستوضح حاله.
المصادر :
ـ عبد العزيز عتيق، في البلاغة العربية علم المعاني، البيان، البديع، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، ص23
ـ شوقي ضيف، البلاغة تطور وتاريخ، دار المعارف، ط11 ص 160
ـ عادل الأصيل، المصطلح النقدي والبلاغي في كتاب الإيجاز لأسرار كتاب الطراز، مطبعة وراقة بلال، فاس ـ المغرب، ط1 2021م ج1 ص 70
التعليقات مغلقة.