أول جريدة إلكترونية مغربية تتجدد على مدار الساعة

صورة الفنان انغمار برغمان طفلا

أحمد بوزفور

انغمار برغمان مخرج مسرحي وسينمائي سويدي معروف على الصعيد العالمي. أخرج أكثر من مائة مسرحية: ( شكسبير وستريندبرغ… وآخرين )، وحوالي خمسين فيلما سينمائيا. تميز بإدخال الكاميرا إلى أدغال النفس البشرية الداخلية، وتجسيد ما يقع فيها على وجوه الممثلين والممثلات ” وجه الممثلة السويدية الرائعة ليف أولمان خصوصا “.

من أعماله الخالدة: التوت البري.. برسونا.. ضوء الشتاء.. وقت الذئب.. اللمسة.. صرخات وهمسات.. الصمت.. وجها لوجه.. فاني وألكسندر… إلخ.

من آثاره الطيبة في الثقافة المغربية كتاب جميل للكاتب الصديق الأستاذ حسن حلمي بعنوان ( انغمار ). وهو انغمار شعري في انغمار برغمان: نصوص تحايث أفلامه الكبرى بشكل ممتع.

كتب برغمان سيرته الذاتية في كتاب بعنوان ( المصباح السحري )، وترجمه إلى العربية باسل الخطيب. ومن هذه الترجمة، ومن مرحلة الطفولة فيها خصوصا، اخترتُ لكم هذه المقتطفات:

يفتح عينيه على الداخل

أبحث في يوميات أمي عن شهر تموز عام 1918 فأجدها كتبت: ” كنتُ متعبة خلال الأسابيع الماضية، ولم أستطع أن أكتب. لقد أُصيب إيريك ( زوجها ) بالأنفلونزا الإسبانية للمرة الثانية، ووُلد ابنُنا في صباح الأحد 14 تموز. وأصيب بحرارة مرتفعة وإسهال قوي. إنه يبدو مثل هيكل عظمي، وله أنف أحمر كبير، ويرفض بعناد أن يفتح عينيه، وبعد أيام من ولادته نفد حليبي بسبب المرض. وعمدناه في المستشفى بحالة طارئة. اسمه انغمار. وقد أخذته أمي إلى فارموس لترعاه ممرضة مختصة.

وجه الأم

منذ سنوات، صورتُ فيلما عن وجه أمي بواسطة كاميرا من قياس 8 ملم وبعض العدسات الخاصة. يوما بعد يوم قمتُ بدراسة مئات الصور. هاهي طالبة مع صديقاتها عام 1890 ترتدي قميصا أبيض روسي الطراز، وكأنها إحدى فتيات تشيخوف الغامضات. ممرضة شابة في الزي الخاص بها. صور الخطوبة التي التُقطَت عام 1912 : الخطيب يقرأ كتابا، والخطيبة تطرز، وتنحني إلى الأمام قليلا وتنظر إلى الكاميرا. الصورة التالية مؤثرة: تجلس على مقعد طويل وأمامها كلب ضخم، وتضحك بفرح ( إحدى الصور القليلة التي تضحك فيها أمي ).. ثم تأتي صور استوكهولم: الزوجان في شقتهما الجديدة بحي أوستر مالم الهادئ، يرتديان ثيابا أنيقة ويبتسمان شكليا بعد أن تقبَّل كل منهما دوره، وبدأ يؤديه بحماس.. صورة أخرى لأمي وهي تضحك، جالسة على درجات الشرفة وأنا في حضنها، ربما كنتُ وقتها في الرابعة. تضمني بقوة، وتشبك يديها على بطني. يدها قصيرتان وقويتان. أظافرها مقصوصة. وأكثر ما أذكر في يدها خط الحياة العميق. هذه اليد الناعمة: شبكة من العروق، تفوح بروائح الأزهار والأطفال والمسؤولية والحرص والقوة والحنان والحب…. وأخيرا تأتي صورة جواز السفر… كأن ريحا ثلجية مرت أمام وجهها فجزَّأت ملامحها إلى أقسام. غارت عيناها، ولم يعد باستطاعتها أن تقرأ بعد، وهي الشغوفة بالمطالعة، وافتقر قلبها إلى الدم الكافي، ومشطت شعرها الرمادي إلى الخلف وابتسمت على عجل. يجب أن يبتسم المرء أمام الكاميرا. كانت بشرة خديها منتفخة تتقاطع فيها التجاعيد والأخاديد، وقد جفَّت شفتاها.

الأم الدَّيَّانة

عثرنا على يوميات أمي في خزانة الودائع. وبعد موتها، كان والدي يجلس كل يوم ويستعين بالعدسة المكبرة لقراءة خطها. وشيئا فشيئا أدرك أنه لم يعرف أبدا تلك المرأة التي تزوجها خمسين عاما. لماذا لم تحرق أمي يومياتها؟ ربما تركتها كعقاب مخطط له.

الحب الأول

لا أستطيع المشاركة في تسليات الشباب من عمري إلا لفترات قصيرة. بالإضافة إلى ذلك لم أكن ألبس مثلهم، فأنا نحيل، ولديّ بثور، وأتلعثم عندما لا ألزم الصمت، وأقرأ نيتشه.

مع ذلك، لستُ وحيدا تماما. في الطرف الآخر.. تسكن فتاة شابة ، وحيدة هي أيضا. وُلد بيننا حب خجول كما يحصل عندما يتجاذب شابان وحيدان. تسكن مع أهلها في منزل كبير غير مكتمل البناء بشكل غريب. والدتها سيدة ذات جمال فارغ من أي مضمون، ومهترئ نوعا ما. والدها مصاب بنوبة شلل دماغي، ويبقى جالسا دون حراك في صالة موسيقى كبيرة أو على مصطبة تطل على البحر. يأتي عدد من الرجال والسيدات غريبي الأطوار لزيارتهم، ولتأمل مزروعاتهم من الزهور المستجلبة. كان الأمر تقريبا وكأنني ادخل في إحدى قصص تشيخوف القصيرة.

انطفأ حبنا عند مقدم الخريف، ولكنني استخدمته كأساس لواحدة من قصصي القصيرة كتبتها خلال الصيف الذي تلا حصولي على البكالوريا.

ذلك الجزء من الثانية

أستطيع أن أذكر كل اللحظات التي أمضيتُها في تلك الشقة البائسة ( شقة تعارك فيها انغمار الطفل مع رجل يضرب أمَّ صديقته، فلطمه الرجلُ وكسر سنَّه )، أذكر كل الأصوات والعلامات والأضواء المنعكسة على النوافذ من الشارع المقابل. أذكر روائح الشواء والقذارة، والشعرَ الأحمر الزيتي لذلك الرجل. أذكر كل شيء بالتفصيل، ولكن دون وجود لأية عواطف مرتبطة بتلك الانطباعات. هل كنتُ خائفا؟ غاضبا؟ محرجا؟ فضوليا؟ أم مهسترا فحسب؟ لستُ أدري.

والآن، بما أنني أملك المفتاح في يدي، أعرف تماما أنه يجب انقضاء أربعين عاما قبل أن تتحرر مشاعري من سجنها. لقد عشتُ على ذاكرة الأحاسيس، وعرفتُ كيف أُعيد خلق هذه الأحاسيس دون أن يكون التعبيرُ العفوي عنها، عفويا وتلقائيا بمعنى الكلمة. ثَمَّةَ جزءٌ من الثانية يفصل دائما بين التجربة وبين تجليها الحسي.

يسكن في الحلم

في كتاب ( السينما كما يراها برغمان )، قصصتُ، بقدر لا بأس به من التفصيل، رحلةً بالسيارة إلى أبسالا في ساعة مبكرة جدا من أحد الأيام. كيف رغبتُ، وقد استولى عليّ دافع مفاجئ، في رؤية منزل جدتي. كيف وجدتُ نفسي أمام باب المطبخ، وكيف شعرتُ، خلال لحظة سحرية، بإمكانية الغوص من جديد في طفولتي. إنها كذبة. كذبة لا ضرر منها، فالحقيقة هي أنني أعيش دائما وباستمرار، في طفولتي، وأنني أتـنزه في الشقق التي يغشاها شيئا فشيئا ضوءُ الشفق… وفي شوارع أبسالا الصامتة، وأنني أجد نفسي أمام المنزل الصيفي مصغيا إلى شجرة السندر ( البتولا ) الفارعة ذات الجذع المزدوج. إنني أتنقل هناك بسرعة جنونية. في الحقيقة، أنا أسكن باستمرار في حلمي، ومنه أقوم أحيانا بزيارات للواقع.

التعليقات مغلقة.