الدكتور امحمد لشقر.. من مشرط الجراحة إلى قلم التاريخ وذاكرة الريف الحية
محمد المسعودي
في مسارٍ استثنائي قلّ نظيره، يجمع الدكتور امحمد لشقر بين مسالك الطب ودروب الأدب ومنعرجات السياسة، متجذراً في تربة الريف، حاملاً همّ التاريخ المنسي ووجع الإنسان المهمّش. إنه الجراح الذي أدرك باكراً أن شفاء الجسد لا يكتمل دون مداواة ذاكرة الجماعة. سيرة تجمع بين النضال، العلم، الاعتقال، والكتابة، وتقدّم نموذجاً فريداً للمثقف الملتزم.
طفولة على أنقاض الانتفاضة
وُلد الدكتور امحمد لشقر سنة 1950 بمدينة الحسيمة، في كنف أسرة متشبعة بقيم الكفاح. كان شاهداً في طفولته على مآسي انتفاضة الريف 1958-1959، التي تميزت بحملات قمع عنيفة طالت آلاف العائلات، من بينها أسرته التي تعرض أفراد منها للاعتقال، ما زرع فيه وعياً مبكراً بمفاهيم الظلم والهوية والعدالة، ليصبح هذا الوعي لاحقاً أساس مشروعه الفكري والسياسي.
من كلية الطب إلى زنزانة الاعتقال
بعد حصوله على شهادة الباكالوريا من تطوان سنة 1970، التحق بكلية الطب بالرباط، حيث لم يكن مجرد طالب، بل ناشط فاعل في الاتحاد الوطني لطلبة المغرب. هذا الانخراط كلفه الاعتقال أكثر من مرة في مطلع السبعينيات، حيث مرّ بتجربة الاستنطاق في معتقل “كوربيس” سيء الذكر، والتي سيخلدها لاحقاً في واحدة من أبرز سيره الذاتية.
رغم هذه الظروف، واصل دراسته بتفوق، وتخرج طبيباً متخصصاً في الجراحة العامة سنة 1980.
الطبيب الإنسان والميداني
مارس الطب لأزيد من ثلاثين سنة، أولاً في المستشفى الإقليمي بالحسيمة، حيث كان من بين أوائل الجراحين المحليين، قبل أن يؤسس مصحة خاصة في طنجة. اشتُهر بأخلاقياته المهنية، وتواضعه مع مرضاه، وانخراطه في قوافل طبية تطوعية لمناطق نائية.
جمع بين كفاءة طبية عالية وروح إنسانية متقدة، مؤمناً أن المساواة في العلاج حق مقدس لا تفاوض فيه.
جمعية التضامن والعمل الإنساني بالحسيمة: نموذج للريادة المدنية
تولى الدكتور امحمد لشقر رئاسة جمعية التضامن والعمل الإنساني بالحسيمة، واستطاع أن يجعل منها واحدة من أكبر الجمعيات النشيطة والمتعددة التخصصات بالمنطقة. تحت قيادته، حققت الجمعية إشعاعاً وطنياً ودولياً، وأصبحت محل اهتمام من طرف كبار الشركاء والمنظمات الدولية الراغبة في التنسيق معها، لما أبانت عنه من مهنية واستقلالية وشفافية في تنفيذ مشاريعها الميدانية، في مجالات متعددة كالصحة، التعليم، الإغاثة، ومحاربة الهشاشة.
الكاتب الذي خرق جدار الصمت
مع بداية الألفية، قرر أن يحول جراح الذاكرة إلى نصوص. أصدر سيرته الشهيرة “كوربيس: طريقي نحو الحقيقة والصفح”، التي عرّت تجربة الاعتقال السياسي في المغرب بجرأة أدبية وإنسانية. تبعتها إصدارات أخرى بارزة:
“على طريق الممانعين”، رواية عن الأمل والمقاومة.
“هذه الحرب لم تكن حربنا”، قراءة في مشاركة المغاربة بالحرب الأهلية الإسبانية.
“منفي موكادور”، إدانة رمزية للنفي السياسي والمراقبة القسرية.
وآخرها روايتا “Gertrude Arnall” و*”L’exilé du Mogador”*، الصادرتان سنة 2025.
تميزت كتاباته بالجمع بين البُعد التوثيقي والتحليل السردي، محررةً الذاكرة الجماعية من براثن التزييف والنسيان.
صوت حاضر في الفضاء العمومي
لا ينعزل الدكتور لشقر في برجه العاجي، بل يشارك بفعالية في النقاشات الوطنية، سواء عبر مداخلاته الصحافية، خصوصاً على موقع Mediapart الفرنسي، أو حضوره في البرامج الثقافية كـ “سيرة ومسار” على القناة المغربية.
كما يساهم بانتظام في ندوات وطنية ومحلية حول قضايا الهوية، المصالحة، والعدالة الاجتماعية، ويعمل على تأطير الشباب في الجمعيات المدنية، ومنها جمعية التضامن والعمل الإنساني، التي ساهم من خلالها في عشرات المبادرات الاجتماعية والطبية.
فلسفة الصفح لا النسيان
رغم كل ما تعرض له، يصرّ الدكتور لشقر على التمسك بخيار الصفح الواعي، لا من باب الضعف، بل كفعل سياسي وأخلاقي راقٍ. يقول:
“لا ننسى، لكن لا نحقد. نكتب لنُشفى، ونصفح لنحرّر الأجيال القادمة من ثقل الانتقام.”
سيرة تلهم الأجيال
الدكتور امحمد لشقر، بشخصيته المتعددة: الطبيب، المعتقل السابق، الكاتب، والفاعل المدني، يقدم للمغرب نموذجاً فريداً لـ”المثقف الشاهد”، الذي لا يكتب من برج العزلة، بل من قلب المعاناة والعمل والميدان. إنه رمز لريفٍ جريح لكنه حي، مثقف لكنه مقاوم، وطني لكنه ناقد
التعليقات مغلقة.