أول جريدة إلكترونية مغربية تتجدد على مدار الساعة

النشرة الجوية

ناصر السوسي*

لم أكن أعلم أبدا أن جارا جديدا اكترى البيت الذي يقابل شقتي.كان هذا منذ عقود خلت..و لم اعلم أيضا ان هذا الجار الجديد ، و قد بدأ يتقدم عميقا في العمر عازب .كنت شابا في تلك المرحلة و كنت عازبا مثله..كنت أحمل محفظة جلدية كبيرة متى قررت التوجه إلى ” مؤسسة آل سعود بالدارالبيضاء ” او صممت على الذهاب إلى ” الخزانة العامة ” بالرباط لاستزادة تحصيلي المعرفي و تعميق تأهيلي العلمي الجامعي .كنت كلما خرجت من بيتي ألمح جاري الجديد في رحلة ذهاب و إياب خلال أوقات معلومة إلى الجامع القريب من ” الدرب “. يرتدي دائما ” فوقية ” لونها أزرق قاتم بكمين قصيرين .كما كنت ألمحه و هو يلاعب سبحة طويلة بنية اللون أو يحدق في وجوه بعض النساء المتبضعات بشكل غريب أو يبتسم للفتيات…أو في صحبة بعض الشيوخ المتقاعدين الذين تعرف إليهم بسرعة قرب باب مرآب مهجور يمارسون أمام ساحته الضيقة لعبة ” الضامة “..
و مع أن سنه تجاوز الأربعين سنة فإن هذا العمر لم يهذبه بشكل جيد . ظل خفيف الظل . نزقا كالزئبق . تعرف على كل الجيران تقريبا بحيث صار يحضر بعض حفلات الختان أو الزواج أو الجنازات لتلاوة القرآن الكريم بصحبة ” الطلبة ” دون أن يكون حافظا ل ” ستين حزب ” .. علم أنني مدرس مثله فقال لي يوما : ” حنا ولاد حرفة وحدة ثم قدم لي نفسه بوصفه مدرس اجتماعيات ..” طفق يزورني ببيتي بين حين و آخر . كنت أستمتع بأحاديثه و نكثه و قصصه اللي ك ” تعقل ” على ” جد النمل ” بحيث “يرويها لي بنبرة ” حلايقي ” محترف . و لما اقتنيت جهاز تلفاز بالألوان بدأ يزورني بشكل منتظم في كل الأماسي لمتابعة الأخبار المسائية على قناة إ.ت.م الوحيدة في تلك الآونة . كان مفتونا بالأخبار التي يقدمها الإعلاميان المغربيان المرحوم سي محمد المؤدن و السيدة قمر أيت بنمالك ذكرها الله بكل خير..
و مع مرور الأيام صار يصطحب معه سيدة في مثل سنه . سيدة كانت في غاية الأناقة و اللباقة و الأدب رغم أنها لم ترتد أبدا مدرسة في حياتها . و الغريب أنه كان يصر على أن ترافقه صديقته هاته إلى بيتي لمتابعة الأخبار و مشاهدة ” النشرة الجوية ” التي كان يقدمها المهندس المغربي عبد السلام شعشوع .
كان جاري المدرس هذا يقطع صوت عبد السلام شعشوع ذي اللكنة المغربية الشمالية الجذابة بواسطة جهاز التحكم عن بعد الذي كان يجد متعة كبيرة في تشغيله فيبقي على الصورة لوحدها ليتصنع جدية مبالغ فيها و تعالما في فك رموز الخريطة الجوية الملتقطة بواسطة الميتيو- ساط. كان يتصنع الأستاذية أمام الشاشة الصغيرة و هو يمسك مسطرة طويلة بيده اليسرى ليقول مفسرا و موضحا و صديقته فاغرة فاها فيه :
” هنا كيف كاتشوفو غادا تكون رياح شمالية -شرقية قوية إلى جنوبية – غربية باردة إلى شديدة البرودة .. ردوا بالكم من إضطراب جوي قوي في طريقه إلى السواحل المغربية من جزر الآصور بسبب الضغط المنخفض الذي يسود عندنا منذ أيام ..و سيتكون على إثره جليد في السهول الداخلية و الهضاب العليا يعني ” الجريحة “و بسبب تاثير الرياح القطبية ..أما في النجود كما توضح لنا الخريطة فستسقط الثلوج في المرتفعات التي يزيد علوها على 1500 متر. لكن السفوح ستكون عرضة للبرد أي التبروري . و البحر سيكون هائجا إلى قليل الهيجان و علو الموج سيكون في حدود مترين تقريبا .”
كان هذا الصديق – الأستاذ متيقنا من شروحه المسهبة للخرائط الجوية و للمناخ و الطقس لذلك فقبل أن يخرج مغادرا بيتي كان ينصحني بتوخي الحذر من خطورة الانزلاق في الطريق لما أمتطي دراجتي الهوائية لأن الأمطار ستكون غزيرة ..
و أذكر يوما سألته فيه عن طرق و كيفيات قياس التساقطات المطرية .لم يجبني بل سارع إلى طلب ” سطل ” فارغ و ضعه في سطح البيت و أمرني حازما بعدم الاقتراب منه إلى أن يأتي هو شخصيا لينظر في الأمر . و في مساء اليوم الموالي بعد شرح مستفيض ، كعادته ، للخريطة الجوية تبعته و صديقته إلى السطح لمعاينة السطل و قياس الأمطار هكذا طلب من صديقته مده ب ” ميترو ” أودعه لديها قبل مجيئهما عندي . وضع ” الميترو” في قعر” السطل. كنت أتتبع حركاته عن كثب إلى أن التفت إلي واثقا مما يقوم به . استدار نحونا ثم قال : ” : ” ها نتوما بارك الله فيكم كتشوفو مزيان دابا . طاحت اليوم بالسلامة و العافية ، من خيرات ربي نعام آسيدي كول شي 13 ملم ديال الما من السما و الحمد لله العام باين ليا غااااااادي يكون مليح إن شاء الله …. “

التعليقات مغلقة.