أول جريدة إلكترونية مغربية تتجدد على مدار الساعة

لا تقتلوا الشهداء مرتين!

جمال بدومة

كنا طلابا ساذجين في بداية التسعينيات، ضائعين بين الألوان، نعيش الحاضر بالأسود نحلم بالثورة الحمراء ونلون المستقبل بالوردي. كنا محاربين بلا أسلحة، نتعارك على أكثر من جبهة، ويقتلنا الجوع والبرد وتجاهل الفتيات. صعدنا من الطبقات السفلى لإكمال دراساتنا العليا، رصيدنا منحة بئيسة نتقاضاها كل ثلاثة أشهر ونبددها في ثلاثة أيام، نتدرب على الحرية في الساحة: ندخّن سجائرنا الأولى، نمشي يدا في يد مع الفتاة التي نحب، نردد الشعارات، نرتجل التظاهرات، نجمع الحلقيّات ونتناقش بحدة كأننا نقرر مصير الكوْن…

كانت الجامعة، مثل العالم العربي، مقسمة إلى معسكرين: “الرفاق” و”الإخوان”، وكان الصراع بين “القاعديين” و”الإسلاميين” دخل فصوله الأكثر دموية. كلا الطرفين لا يرى غير العنف وسيلة لطرد خصمه بعيدا عن “الحرم الجامعي”، كما كنا نسمي الكلية بكثير من التقديس. المعسكران وجهان لعملة واحدة: الاول يدعو إلى “الجهاد ضد أعداء الإسلام”، والثاني ينادي ب”العنف الثوري ضد الظلاميين”…

ذات يوم، في مستهل 1993، دلف حشد من الطلاب الغاضبين إلى مدرجنا في كلية العلوم بمكناس، وانتزعوا الميكروفون من أستاذ “الجينيتك” كي يخبروننا بأن أحد “الرفاق” قتل في فاس على أيدي “العصابات الظلامية”. كان اسمه ثلاثيا: محمد بنعيسى آيت الجيد… وسرعان ما اندلعت اشتباكات عنيفة بين “الرفاق” و”الإخوان”، دارت رحاها بين كليتي الآداب والعلوم والاقامة الجامعية وحي الزيتون باكمله، امتدت لعدة أسابيع، واستعملت فيها كل الأسلحة المتاحة، من حجر وسلاسل وعصي وسكاكين، وجند فيها كل فريق “أجهزة استخباراته” التي كانت تسمى “لجان اليقظة”، وأسفرت عن عدد من الجرحى والمعتقلين.

سمعنا روايات كثيرة حول الرفيق المغدور، وكيف استعمل الهمج حجر الرصيف كي ينزعوا روحه من جسده، وفي النهاية عرفنا ان السلطات اعتقلت المتورطين في اغتياله، كما أوقفت كل من استطاعت الوصول اليهم من “الرفاق” و”الإخوان”، خلال هذه المواجهات الدامية، وصدرت الأحكام فيما بعد، وطويت صفحة مضرجة بالدم.

مرّت السنوات وماتت الشعارات وتفرّق “الرفاق”، منهم من صار ضابطا محترما في المخابرات ومنهم من تحوّل من متعهد مظاهرات إلى متعهد حفلات ومنهم من ذهب إلى الحجّ ومنهم من خلط الاصالة بالمعاصرة، وأصبح مستشارا أو نائبا في البرلمان… وحدها روح آيت الجيد بقيت معلقة على حبال التاريخ، تنظر إلينا جميعا بغضب.

اليوم، يود البعض ان يقنعنا ان القضاء من فرط نزاهته وغيرته على روح الشهيد المعذبة، يريد فتح ملف مقتله من جديد، ربع قرن بعد صدور الأحكام النهائية، وما تلاها من تدخل لهيئة الإنصاف والمصالحة لجبر ضرر من أدينوا ظلما في القضية… وأي قضاء؟ القضاء نفسه الذي ادان ناصر الزفزافي بعشرين سنة سجنا، وتوفيق بوعشرين باثني عشر عاما، والمرتضى إعمراشا بخمس سنوات، ومازال يبهدل حميد المهداوي وثلة من النشطاء الأبرياء بين المحاكم والزنازين… القضاء الذي طمس ملف الشبان الأربعة الذين ماتوا محروقين داخل وكالة بنكية في 20 فبراير 2011، واغلق بسرعة ملف محسن فكري وكمال عماري والمعطي بوملي… ضربته الغيرة فجأة على آيت الجيد، الذي اصبح يدافع عنه الثلاثي المرح: الهيني والحاجي وبنجلون التويمي… يا للعجب!
كفانا سينيكية. لا تقتلوا الشهداء مرتين. اتركوا آيت الجيد يرقد في سلام، بدل المتاجرة بدمه الزكي، لتحقيق مكاسب سياسية قذرة!

التعليقات مغلقة.