أول جريدة إلكترونية مغربية تتجدد على مدار الساعة

هل يعود “الأب” الى أسرته؟

جمال بودومة

“أنا مغربي من فاس، انحدر من عائلة متواضعة وشريفة ومتدينة، تحرص على التقوى والإيمان والاخلاق الحميدة. اصول عائلتي من الأندلس، لكننا استوطنا فاس منذ أربعة قرون، وهناك عقود توثق ذلك. كثير من أفراد العائلة شغلوا ومازالوا يشغلون مناصب لا تخلو من أهمية في الادارة المغربية، مثل احد أعمامي، الذي يصغرني سنا، ويشغل منصب وكيل الملك في فاس. سيكون عمري 63 عاما في 17 ابريل المقبل. في الثالثة والعشرين من عمري، اثناء دراستي في السوربون، وإثر أبحاث دينية استغرقت ثلاث سنوات، قررت ان أطلب التعميد في الكنيسة الكاثوليكية، وأن أهَبَ نفسي لخدمة المسيح… عُمّدت عام 1928، ودخلت للكنيسة الفرنسيسكانية في 1929”.
هكذا تحدث الأب جان-محمد بنعبد الجليل، المغربي الذي دخل الى المسيحية، وتدرج في الكنيسة، وتقلد مناصب مرموقة في الفاتيكان حتى أصبح مستشارا للبابا…

في نهاية 1928، لم يستطع المجتمع المغربي المحافظ ان يتفهم ما اقدم عليه الطالب محمد بنعبد الجليل، حين قرر اعتناق المسيحية بتأثير من أستاذه لوي ماسينيون، المستشرق الشهير. الشاب الذي ذهب الى باريس لإكمال دراسته، أشهر مسيحيته في حفل مشهود بإحدى الكنائس، وصلت أصداؤه الى فاس حيث تقيم عائلته. وما كان من والده الا ان نظم جنازة مهيبة، بنعش رمزي، كي يقول للناس ان ابنه محمد قد مات، لعله يغسل عار الأسرة الفاسية العريقة.

في الصفحة 61 من رواية “Le passé simple” لإدريس الشرايبي، يقول الوالد المتسلط لابنه المتمرد: “وأنت، أنت الذي كنا نتوسم فيه أن يعلي من شاننا… ما هو حلمك؟ أن تغادر وتنسانا جميعا، في اقرب وقت وبصفة نهائية بمجرد ما تذهب، أن تحقد علينا، أن تحقد على كل ماهو مسلم وكل ما هو عربي، هل تعرف كيف انتهى بنعبد الجليل، استاذك السابق في مدرسة جسوس؟ إنه في باريس، أصبح كاثوليكيا وراهبا… حاول أن تفعل أفضل منه، الله يعاونك، من يدري ربما اصبحت البابا نفسه!”

طوال عقود، كان محمد بنعبد الجليل فزاعة يشهرها الآباء في وجه أبنائهم العاقين، رغم انه في الحقيقة رمز للتسامح والتعايش والوفاء للوطن. ومثلما تمسك باسم “محمد” الذي ظل يحمله جنبا الى جنب مع “جان” أو “يوحنا”، لم يتخل عن ثقافته الاسلامية وحسه الوطني. كان متضلعا في الفقه الاسلامي والأدب العربي، حافظا للقرآن، يتقن الانجليزية والالمانية والإسبانية، بالاضافة الى العربية والفرنسية، وظل يقدم محاضرات عن الاسلام والأدب العربي بالمعهد الكاثوليكي في باريس، ويؤلف الكتب والمقالات العلمية، الى ان اضطره المرض للتخلي عن التدريس. لعب محمد بنعبد الجليل دورا مهما في الترويج للحركة الوطنية داخل الأوساط المسيحية، وفي النضال من اجل الاستقلال. لم تنقطع صلاته برفاقه الوطنيين، الذين درسوا معه في فرنسا ضمن اول بعثة طلابية في العشرينيات، ومن بينهم محمد بلحسن الوزاني والدكتور المهدي بنعبود واخوه الحاج عمر بنعبد الجليل، احد ابرز قادة حزب “الاستقلال”، الذي شغل منصب وزير الفلاحة ثم وزير التربية الوطنية، ولم يتوقف عن زيارة شقيقه رغم “سخط الوالدين”. عام 1961، نجح الحاج عمر في إقناع الأب جان بالعودة الى المغرب، بعد خمسة وثلاثين سنة من الغياب. لكن حزب “الاستقلال”، الذي أحرجته الزيارة أمام قواعده المحافظة، كتب في صحافته ان محمد بنعبد الجليل لم يعد فقط الى وطنه بل عاد الى الإسلام…وسرعان ما تناقلت الصحف الفرنسية الخبر، وفي مقدمتها “لوموند” و”لوفيغارو”. مناورة الاستقلاليين آلمت الأب جان، وجعلته يغادر المغرب محبطا ولا يعود اليه أبدا!

الرجل الذي كان يتحدث بأكثر من لغة، نال منه سرطان اللسان، وانتقل الى دار الحق في 24 نوفمبر 1979 بمدينة “فيل جويف” في ضواحي باريس… ونحن نخلد الذكرى الأربعين لرحيله، التي تتزامن مع الزيارة التاريخية للبابا فرانسيس الى المملكة، سيكون أبلغ تأكيد لخيار التعايش بين الأديان، وحماية الأقليات وحرية المعتقد، وبقية الشعارات التي رفعت اثناء زيارة الحبر الأعظم، هو ان نعيد الاعتبار الى محمد بنعبد الجليل، كمغربي مسيحي، وكرجل وطني ناضل من اجل استقلال بلاده، وظل مخلصا له، ودفع غاليا ثمن “تغيير الدين” و”حرية المعتقد”. الفاتورة كانت حياة كاملة من النفي والنبذ في بلده. لقد تغير المغرب، وتبدلت الظروف، ولم يعد التبشير يهدد وحدته، و آن الأوان ان يعود “الأب” الى أسرته. سيكون من الإنصاف ان نطلق اسمه الكامل، الأب جان-محمد عبد الجليل، على احد الشوارع او المراكز الثقافية التي تشجع التعايش بين الأديان.

التعليقات مغلقة.