صدر للدكتور رشيد الكنوني مؤلف جديد بعنوان “سيكولوجيا الإنسان الأمّي” وهي دراسة للاتجاهات النفسية الاجتماعية نحو الذات والآخر بالمغرب، من منشورات شركة النشر والتوزيع المدارس. والباحث حاصل على دكتوراة الدولة في علم النفس الاجتماعي، خبير في السياسات الاجتماعية المتعلقة بمجالات الأسرة والطفولة والأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة، أستاذ زائر في بعض الجامعات والمعاهد الوطنية، حاصل على الجائزة الأولى للبحث العلمي في مجال الإعاقة من جامعة محمد بن عبد الله بفاس سنة 2017. من أهم إصداراته في مجال الإعاقة: التنشئة الاجتماعية للطفل المعاق: دراسة نفسية اجتماعية لقضايا الاندماج الاجتماعي، من منشورات فكر 2006، الإعاقة بالمغرب: عنف التمثلات وممكنات التغيير، شركة النشر والتوزيع المدارس 2016، تقلد مجموعة من المسؤوليات آخرها مدير للنهوض بحقوق الأشخاص في وضعية إعاقة ما بين سنتي 2006 و2018، مكلف بمهمة لدى رئيس الحكومة حاليا.
وقد عمل الباحث في هذه الدراسة على رصد العلاقة التي افترض وجودها بين عملية محو الأمية والاتجاهات النفسية الاجتماعية للإنسان الأمي نحو ذاته ونحو الآخرين. ذلك أنه لا يعتبر محو الأمية مجرد تعليم الإنسان لبعض المهارات مثل القراءة والكتابة أو الحساب أو مهارات وظيفية أخرى، بل حلقة من حلقات سيرورات التنشئة الاجتماعية التي يخضع لها الفرد منذ ميلاده إلى مماته والتي يكتسب من خلالها المعايير والنماذج السلوكية التي تجعل منه عضوا مندمجا في المجتمع. وبذلك فمحو الأمية تساهم في تشكيل الفكر الاجتماعي للإنسان الأمّي وتجعله حاملا لاتجاهات نفسية اجتماعية نحو ذاته ونحو الآخرين.
إن هذا المؤلف يقارب مجموعة من التساؤلات التي طرحها الباحث: ماذا نعرف عن الإنسان الأمي أو الذي تمكن من القضاء على أميته؟ ماذا نعرف عن دوافعه، عن اتجاهاته وتمثلاته، عن رغباته، عن ميولاته ومكونات شخصيته؟ هل يمكننا القول بأن الأمي كائن غير مندمج في المجتمع؟ ما علاقة الأمية بعدم الاندماج وأين يتجلى عدم الاندماج هذا؟ ألا يمكن القول بأن الأميين يكونون جماعة لها خصائص معينة ومحددة؟ وهل يعني ذلك أن هناك هوية خاصة بالأميين؟
هذه التساؤلات وغيرها، عمل الباحث في مجال علم النفس الاجتماعي على مقاربتها في مؤلفه الجديد الذي يتكون من تسعة فصول موزعة على بابين: خصص أحدهما للإطار النظري، تضمن شروحات مستفيضة لدلالات وأبعاد الأمية ومحو الأمية بالإضافة إلى المعطيات الإحصائية والبرامج والمقاربات المتعلقة بها، مع استعراض المراحل التاريخية التي عرفها هذا المجال بالمغرب، قبل أن ينتقل لمقاربة مفهومين أساسيين في مجال علم النفس: مفهوم الاتجاهات النفسية الاجتماعية ومفهوم الذات كمدخل لدراسة سيكولوجية الإنسان الأمي بالمغرب. وقد خصص المؤلف فصول الباب الثاني المتعلق بالجانب الميداني للتحديد الإجرائي لإشكالية وفرضيات ومتغيرات ونهجية هذا البحث، قبل الانتقال إلى استعراض النتائج التي تم التوصل إليها من خلال التحليل الإحصائي وتحليل المحتوى.
ويعتبر الدكتور المصطفى حدية وهو أحد رواد علم النفس الاجتماعي بالمغرب أن المؤلف الجديد للدكتور رشيد الكنوني “يحظى بميزة السبق في مجال علم النفس الاجتماعي كبحث لا يقتصر في تقديم إشكالية الأمية في المغرب ومحوها، على الجانب النظري الذي يبين من خلاله بشكل عميق مفهوم الأمية وعملية محوها، في مختلف أبعادها المعرفية والعلمية والسياسية والثقافية والاجتماعية والتاريخية، مما نعتبره مرجعا مهما في هذا الموضوع، زد على هذا تركيزه الدقيق والمفيد على تحديد الدلالات والمعاني لمفهوم الأمية وعملية محوها والآثار الإيجابية المترتبة عليها فيما يخص الإنسان الأمي، وكذا قضايا النمو والتحديث للمجتمع. نقول لم يقتصر تناوله على الجانب النظري، بل تستند استنتاجاته ومقاربته لخصائص سيكولوجيا الإنسان الأمي على بحث ميداني كرسه للإجابة على عدة تساؤلات”.
لقد توصل الباحث إلى أن المكونات الانفعالية الوجدانية للاتجاهات النفسية الاجتماعية للإنسان الأمّي تتجلى في تقبل وتقدير الذات والآخر سواء كان أميا أو متعلمأ أو عكس ذلك رفضهم وتجنبهم بل وحتى كراهيتهم. وتبين أن الإنسان الأمي لا يتقبل ذاته عندما يكون أميا ثم ينتقل إلى مرحلة تقدير الذات عندما يتحرر من الأمية، وأن الإنسان الأمي عموما يحتفظ باتجاهه السلبي نحو الإنسان الأمي كما يحتفظ باتجاهه الإيجابي نحو الآخر المتعلم في مرحلة ما بعد محو الأمية. ويعتبر أن نوعية هذه الاتجاهات ترتبط بمكوناتها العقلية المعرفية التي تسود في محيط الإنسان الأمي من معلومات ومعتقدات وتمثلات وقيم حول موضوعات شتى منها مكانة الأميين والمتعلمين في عالم يعرف طفرة في مجالات العلم والمعرفة والتكنولوجيا.
ويعتقد الباحث أنه في جماعة الأميين تتكون عقلية بناء على مكتسبات مشتركة يلتقي فيها ما هو سيكولوجي بما هو اجتماعي تفرز هوية خاصة بالأمي تعبر عن مفهومه لذاته. لذلك، فإن الأمية وما يرتبط بها من تمثلات وقيم ومعايير، تساهم في تشكل مفهوم خاص بالذات أوهوية خاصة بالأميين.
ويتساءل في نهاية هذا المؤلف إذا كنا لا نطرح عادة سؤال لماذا يذهب الأطفال إلى المدارس لأن الجواب أو الأجوبة عن هذا السؤال متوقعة وشبه محسومة، فإنه ينبغي أن نطرح عددا مهما من الأسئلة في مجال محو الأمية، من بينها: ماذا أعددنا من برامج في هذا المجال من شأنها أن تغري الأميين بالإقبال عليها، بل والاستمرار فيها بدل الانقطاع عنها، بعد شهر أو شهرين، من تاريخ الالتحاق بفصول محو الأمية.
إن الأهداف التي ينشدها المجتمع من برامج محاربة الأمية ينبغي أيضا أن تلتقي مع الأهداف التي يتوخاها الأميون أنفسهم. بحيث إذا كانت الدولة تسعى لتعليم الإنسان الأمي مهارات القراءة والكتابة والحساب للاندماج في المجتمع والمشاركة في التنمية المجتمعية، فإن هذا الإنسان لا ينظر إلى هذه الغايات الكبرى بقدر ما يركز على أهداف بسيطة هي في الواقع لا تتعارض مع الغايات الكبرى. وفي هذا الإطار يعتبر الدكتور رشيد الكنوني أننا أمام دوافع مختلفة تقتضي برامج ومناهج مختلفة أيضا، من قبيل اعتماد طرق بيداغوجية قادرة على مساعدة المعنيين بالأمر لتحقيق أهدافهم الخاصة. ويعتبر أن المشروع التربوي الفردي هو الأقدر على الاستجابة لكل الاحتياجات والانتظارات.
في الأخير، يختم الباحث مؤلفه بالقول أن مجهوذات كبيرة بذلت في مجال محاربة الأمية ببلادنا استطعنا بفضلها تقليص نسبة الأمية رغم أن نسبتها الحالية لا زالت أكثر من 28% حاليا، وهي نسبة مرتفعة تدعو للقلق، غير أن الاجتهاد أكثر ينبغي أن يطال الجوانب النوعية لبرامج محو الأمية؛ بحيث يجب الاشتغال على دوافع الأميين واحتياجاتهم وبلورة مشاريع لمحو الأمية بعدد الأميين المقبلين عليها حتى نتمكن من تحقيق نوع من التوازن بين ما ينتظره المجتمع وما ينتظره الفرد من هذه البرامج التي نسخر لها إمكانيات مهمة دون تحقيق الأثر المنشود منها. لذلك، فإن إنجاح هذا الورش يتطلب إعداد مشاريع فردية لمحو الأمية تأخذ بعين الاعتبار سيكولوجية الإنسان الأمي قبل وبعد محو أميته.
التعليقات مغلقة.