كان الراحل أحمد كورتي مهووسا بالموسيقى الراقية، وامتطى صهوة التلحين الأصيل، مولعا بالأغنية الطربية. ومنذ نعومة أظافره، قام بجهود كبيرة وواصلها باستماتة الفنان المواطن لخدمة الأغنية المغربية، ناذرا نفسه، في الظل، من أجل إشعاعها على كافة المستويات.
ويعد الراحل مبدعا متميزا، وفنانا بكل الألوان، وعازفا ماهرا على آلة العود، وملحنا لم يشدد لموهبته زيما، وآثر مطربين آخرين على نفسه فأسند عددا من أعماله لكثير منهم بالرغم من صوته الشجي الطروب، فكان بذلك أحد جنود الخفاء، الذين يعملون في محيط الأغنية في صمت ونكران ذات، مبتعدا عن مواطن الظهور، لتأثيث المشهد الغنائي الوطني والمساهمة في تطويره.
كما سعى بكل ما لديه من إمكانيات معرفية وفنية ودراية موسيقية، بحثا وتطبيقا، بالشكل الذي لا يمس بصلب هوية الأغنية المغربية، التي شكلت سر خلودها، وستكون بلا شك سر بقائها.
وكان أحمد كورتي قوي الإيمان بمستقبل الأغنية المغربية التي كان يرى أن لها من المقومات ما يؤهلها للحضور والتألق وطنيا، عربيا ودوليا، متى توافرت لها شروط الإبداع والممارسة.
وكانت بداية ولع الفنان الراحل، وهو من مواليد مدينة وزان سنة 1954، بالموسيقى في الجلسات العائلية التي كان يستضيف فيها الأب التهامي كورتي رفيق صباه ودراسته الملحن محمد بنعبد السلام، الذي كان يزور عائلة كورتي بوزان، حيث اللحن والعزف والأداء الجميل، وكان كورتي الأب يصطحب نجله الموهوب إلى مدينة سلا حيث كان يقيم بنعبد السلام ثم فيما بعد إلى مدينة مكناس التي انتقل إليها هذا الأخير في ما بعد.
وبوزان، بدأ الراحل، منذ سن سبع سنوات، يتلقى مبادئ ودروسا في الموسيقى الأندلسية والأناشيد، كما كان دائم الشغف بالأغاني التي تبثها الإذاعة الوطنية، ولاسيما أغاني الرواد، إضافة إلى هيامه بالأغاني الشرقية لعمالقة الطرب.
وبعد المرحلة الابتدائية، التحق الفنان كورتي بالرباط ليتابع دراسته الثانوية، وليلتحق بعد ذلك سنة 1965 (تاريخ وفاة والده) بمعهدها الموسيقي بالمأمونية حيث حاز دبلومات رفيعة، لينطلق بذلك في رحاب النغمة الجميلة شاحذا خياله وموهبته الفذة في مجال التلحين، مستلهما أسلوبه، بالخصوص، من صديق الوالد الفنان محمد بنعبد السلام الذي استفاد من تجربته وأعماله.
وتدريجيا، فرض أحمد كورتي إسمه بين الملحنين والمبدعين المقتدرين الذين تخرجت على أياديهم أصوات غنائية قوية، ففي سبعينيات القرن الماضي، ووسط فضاء إبداعي تميز بحضور أسماء وازنة في المشهد الموسيقي المغربي آنذاك، من قبيل أحمد البيضاوي وعبد القادر الراشدي وعبد الرحيم السقاط وعبد السلام عامر ومحمد فويتح ومحمد بنعبد السلام وعبد النبي الجراري.
وكان أول لحن وضعه الراحل، وهو لا يزال تلميذا بمسقط رأسه، لقصيدة “فراق” للشاعر أبي القاسم الشابي، وهو اللحن الذي قدمه في برنامج “مواهب” للأستاذ الجراري، الذي يقر كورتي بأن الفضل يرجع له في تقديمه إلى الجمهور.
وفي سنة 1971، انطلق الراحل أحمد كورتي ملحنا بأغنية “يا صبية” التي أداها الفنان محمود الإدريسي، لترد عليه منذ سنة 1972 العديد من المقطوعات والكلمات كان أولها “خير وسلام” للزجال الراحل علي الحداني.
وكان الراحل، الذي عمل أستاذا لمادة العزف على العود بالمعهد الوطني للرقص والموسيقى بالرباط، حريصا على التعامل مع جميع الأغراض الشعرية، ومسايرة الأصوات الجديدة مثل رشيدة طلال (أنا من وجدي أنا) وإبراهيم بركات (الربيع) ويحيى صابر (البيضاء)، وقد لقيت أعماله منذ البداية استحسانا وتشجيعا من العديد من الكتاب والمؤلفين والمبدعين الكبار.
وسجل أحمد كورتي للإذاعة الوطنية حوالي مائة أغنية تعامل فيها مع مطربين من مختلف الأجيال (إسماعيل أحمد، عبد المنعم الجامعي، البشير عبده، لطيفة رأفت، عتيقة عمار، آمال عبد القادر، عماد عبد الكبير، محمد الغاوي، عزيزة ملاك ونعيمة صبري …).
كما أنجز الموسيقى التصويرية لعدة أفلام، وله عدة أعمال منها (مهاجر) لعبد الرفيع الجواهري و(لوعة قلب جريح) لإدريس بلفقيه و(سلطان) للطاهر سباطة الذي سبق أن تعامل معه في أزيد من عشرين عملا، و(غربة وحنين) لعبد الله عطارد و(الله يشافي ويعافي) لعمر التوزاني.
ورحل أحمد كورتي حاملا في حناياه هم مستقبل الأغنية المغربية بكل تلويناتها (الوطنية، والدينية والعاطفية)، تاركا دعوته التي طالما رددها في العديد من المجالس الطربية والغنائية واللقاءات الثقافية لمبدعي الأغنية المغربية والقيمين على شأنها إلى توفير الشروط الضرورية للرقي بها وتطويرها، ومنها توفير الكلمات واللحن الجميلين، وتشكيل فرقة موسيقية وطنية ومجموعات جهوية أخرى، كما كان الشأن بالأمس القريب.
وقبل أن يداهمه المرض، كان الراحل يعتزم التحضير لسهرة كبيرة بمشاركة فنانين آخرين، يقدم خلالها عصارة ربيرتواره في مجال التلحين، ويحقق بالتالي حلما ظل يراوده ويشحن موهبته هو إتقانه للأداء الرخيم صوتا وعزفا لأمهات كلاسيكيات الطرب العربي.
إدريس اكديرة
التعليقات مغلقة.