أنموذجٌ قميءٌ للنُخَبِ التابعةِ
بقلم : موفق السباعي "22 ربيع الآخر 1443، 27 تشرين الثاني 2021"
بقلم : موفق السباعي “22 ربيع الآخر 1443، 27 تشرين الثاني 2021”
إن النُخبَ الفكرية، والسياسية، والدينية في أغلب دنيا العالم، تتحلى دائماً بصفات خُلُقية سامية، وتتصف بشمائل عالية، وسجايا رفيعة.. وتكون هي الرائدةُ، والمرشدةُ، والموجهةُ لعامة الناس إلى الطريق المستقيم.
كما تكون عادة، محلقةً في أجواز الفضاء؛ بفكرها، وقِيَمِها.. وتكون هي القدوةُ الحسنةُ لعامة الناس في أخلاقها الراقية، وسلوكها المستقيم، وتصرفاتها الحسنة.. ليتأسى الناس بها، ويقلدوها.
لكن النُخَبَ عندنا إلا قليلاً منها – وللأسف الشديد – هي من نوع مختلف كل الاختلاف..
إنها نُخَبٌ مجازاً وادعاءً وليس حقيقةً، فهي نُخَبٌ متردية، تمشي في القاع، وتعيش بين الحفر، وعلى شواطئ المستنقعات، ولا تتطلع إلى صعود الجبال، ولا ترنو إلى الوصول إلى القمم الشاهقات، وتتخلق بنفس أخلاق الرعاع والدهماء.
غير أنها تختلفُ عنهم، بأنها تُحسن الكلام، وتُتقن الفذلكة، والجعجعة، وتحمل شهادات جامعية في مختلف العلوم البشرية النظرية؛ فتتباهى بها وتتفاخر، وتتكبر وتتجبر، وتتعالى على من هم في مستواها الفكري والخُلُقي، ممن لا يحمل تلك الشهادات الورقية. وتعتبر نفسها صاحبة اختصاص، وأنها هي أولى من غيرها في الحديث والكتابة.
وضعُ النُخَب عندنا
إن وضعَ النُخَب عندنا – إلا قليلاً منها – مأساويٌ، وتعيسٌ، وبئيسٌ؛ يُدمي الفؤاد، ويُفتت الكبد، ويجعل البصر زائغاً، والعقل مختلاً، وحيراناً، والفكر مضطرباً، ومتسائلاً: أهؤلاء الذين أقسموا أن يقودوا الثورة، والثائرين إلى بر الأمان؟
وسنعرض في مقالنا هذا.. لأنموذج له من الشهرة، الشيءُ الكثيرُ، وله باعٌ طويلٌ في مقارعة النظام الأسدي ومعارضته، وله في سجونه المظلمة، ذكرياتٌ وتاريخٌ مجيد.
إلا أنه في الفكر – يا للحسرة واللوعة – لا يتجاوز سفح الجبل إلا قليلاً، وفي الرؤية، لا يصل نظره إلا لبضعة أمتار، وفي السلوك والأخلاق، لا يزيد عن تصرفات الأطفال، وعن أحلام العصافير، وعن الغوغاء شيئاً.
تعرفت على هذا الأنموذج في بدايات الثورة، وكنت أنظر إليه باحترام، وأُكِّنُ له كل تقدير؛ لعمره المديد الذي يزيد قليلاً عن الثمانين سنة من جهة، ولتاريخه الحافل – كما هو يذكر ويتفاخر به – في محاربته، ومقارعته النظام الأسدي من بدايته.
وتوثقت الصداقة بيننا وتعضدت مع مرور الأيام، وكنت أرسل له أحياناً بعض المقالات التي أكتبها. فكان يُعجب بها، ويُثني عليها خيراً ويمدحها.
وما كنت أتوقع أن يحصل أي شيء يُعكر صَفْوَ هذه العلاقة الحميمية، وما كنت أتخيل، ولا أتصور أن يصدر منه شيء يخرب ويدمر هذه الصداقة، أو هذه الأخوة التي يجب أن تكون في سبيل الله.
ولكن يبدو أنه لا بد لمعرفة معدن الرجال من اختبار، فيه يُكرمُ المرءُ أو يُهان.
الاختبارُ فيه يُكرم المرءُ أو يُهان
وجاء يوم الاختبار العسير! وانكشفت الحجب، وتمزقت المُلاءات الحريرية التي كان يلتحفها، وتهتكت الأستار التي كان يتدثر بها، وتطايرت الأثواب القشيبة الجميلة التي كان يتزين بها، ويخدع الناس بروعة بهائها، وأناقتها.. فظهرت عورته للملأ دون حجاب ولا ستار.
وا سوءتاه، وا خجلتاه من يوم الفضيحة الأكبر، يوم لا ينفع الخداع، ولا التضليل، ولا ينفع مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
بدأ يوم الاختبار المستطير، بأن أرسل لي التعليق التالي على مقالي قبل الأخير الذي كان بعنوان (وقفة تأمل أمام إنشاء منصب للمفتي في استنبول) قائلاً:
(ليس كل من امسك القلم يحق له ان يسفه ويشتم الناس، قليل من التواضع وانا كما تعلم اكتب في صميم اختصاص. اما ما كتبته انت فليس له سوى معنى واحد لا اريد ان اكتبه لك واترفع عن كتابته).
براءةُ المقالِ من الشتم
إن ادعاءَه بأني شتمت الناس، ادعاءٌ باطلٌ، وغيرُ صحيح. وإني أربأ بنفسي أن أنزل إلى درك الشتم المهين، ولكن – للأسف العميق – أن أكثر الناس لا يفقهون اللغة العربية، ولا يَعُون معانيها، ومترادفاتها الكثيرة، وإن كانوا يكتبون المجلدات. ولا يُفرقون بين الهجاء والذم، وبين الشتم. ويستنبطون معاني وكلمات لم ترد في المقال، نتيجة حساسيتهم المفرطة، وتأثرهم الشديد ببعض المفردات.
فالله تعالى حينما وصف بعض عباده بالكلب قائلاً (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلبِ إنْ تَحْمِلْ عليه يلهثْ أو تَتْركه يلهثْ) الأعراف 176.
ووصف البعض الآخر بالحمار (كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أسفاراَ) الجمعة 5. ووصف البعض الآخر بالأنعام (أولئك كالأنْعَامِ بلْ هُم أضَلُ سَبيلاَ، أولئك هُمْ الغَافِلونَ) الأعراف 179.
فهل كان رب العالمين يشتم عباده؟! تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
إنه كان تعالى يهجوهم، ويذمهم، ويُسفه أحلامهم، ويُظهر نقائصهم، وعيوبهم، ويبين سلبياتهم، وتصرفاتهم الذميمة القبيحة، المسيئة المُعيبة.
وهذا الذي ذكرناه في ذلك المقال عن أولئك المؤيدين للمفتي، وليس فيه من السب أو الشتم، نأمة أو كلمة واحدة.. حتى أن عدد المواقع التي نشرته، كانت أكثر من عشرة.. وقد ضرب الرقم القياسي في عدد المواقع التي تنشر لي المقالات خلال عشر سنوات، وهذا أكبر دليل على أنه يخلو من الشتم.
بعد إرساله ذلك التعليق، سألته بمنتهى البراءة، والنية الطيبة، والأدب الجم (هل يمكنك يا سيدي الفاضل أن تذكر لنا ثلاث فوائد أو فائدة واحدة على الأقل، لإنشاء منصب المفتي في استنبول.. بعد أن ذهبت الهوية المسلمة لسوريا في مهب الريح؟
وبعد أن تحولت الأمة المسلمة في سوريا، إلى مجرد طائفة، قيمتها بنفس قيمة طوائف الأقليات الباطنية..
وهل هذا المنصب في استنبول، سيمنع إلغاء الهوية المسلمة لسوريا؟ أو هل سيستطيع إعادة الهوية المسلمة لسوريا، وكيف؟).
انفعاله وغضبه المستطير
وإذا بالرجل ينفعل انفعالاً شديداً، ويغضب غضباَ مستطيراَ، يتطاير شرره في كل مكان، ويخرج عن طوره، ويُظهر خبيئة صدره، ويُبين طبيعته التي جُبِلَ عليها، ويصف المقال بأقذع الصفات قائلاً: (هل تذكر لي فائده واحده من مقالك الهابط).
وبالرغم من أن الوصف كان ثقيلاً، ومهيناً، وغيرً متوقع من ذلك الذي يُنظر إليه على أنه قامةٌ رفيعةٌ، وشخصيةٌ مهيبةٌ! إلا أني – بفضل الله – لم يهز شعرة في جسدي. لأني لا أبالي، ولا أعير أي اهتمام لمثل هذه الترهات، ومثل هذه السفاسف. وأنظر إلى من يزاولها، من علٍ مشفقاً عليهم، وحزيناً على تصرفاتهم المشينة غير اللائقة.
فأعددت له الجواب على سؤاله، وزدت في وصف المقال بأكثر مما وصفه، حتى ينعم بالسرور، ويعلم علم اليقين، أن هذه الأوصاف المهينة، لا تضرني، ولا تُؤذيني، ولا تؤثر بي، فقلت له:
(الفائدة الكبرى من هذا المقال الهابط، الساقط، السافل، المسيء، المنحط ، الوضيع، الحقير ..
هو:
تنبيه الناس إلى خطورة إلغاء منصب المفتي في سوريا، وأن إلغاءه ليس هو الهدف، ولا هو المقصود..
وإنما المقصود هو ما وراءه، من إلغاء المحاكم الشرعية، ونظام الأحوال الشخصية، وتدمير وتحطيم الهوية والشخصية الإسلامية..
وتحذيرهم من المخطط الإيراني الجهنمي الكارثي، الذي يُراد تنفيذه في سوريا، لإلغاء الهوية المسلمة لها.
وأن إلغاء منصب المفتي، ليس إلا الشعرة التي قصمت ظهر البعير.. والمعبر، والجسر إلى تنفيذ أمور أخطر، وألعن بكثير من هذا المنصب الصوري.. وتبيان، وإظهار الحلول العملية، لتلافي هذه الكارثة، وهذه المصيبة الداهية، الدهياء المدلهمة.. ودعوة الناس! إلى النظر إلى ما وراء إلغاء منصب المفتي الشكلي، الصوري.. وعدم الوقوف عنده .. والنظر إلى ما وراء الأكمة.. التي تُخفي وراءها كل الحقائق.. وإلى عدم الهرولة، كالفراش المبثوث، إلى اصطناع منصب مفتي صوري آخر، لا يسمن ولا يغني من جوع … في ديننا.. ليس عندنا بابا، ولا ولي الفقيه. ومرجعيتنا هو الكتاب والسنة فقط.. وليس مرجعتنا العبيد..
فالعبيد أيا كان اسمهم.. فقيه أو عالم.. أو مفتي.. وظيفتهم تبيان ما هو موجود في الكتاب والسنة.. ويمكن أن نأخذ بكلامهم.. أو نضرب به عرض الحائط.. فكلامهم ليس مقدساً، ولا مرجعاً، كما هو عند النصارى والشيعة ..
فمنصب المفتي لم يكن موجودا في العصور الإسلامية، وإنما اصطُنع مؤخراً. اصطُنع لأجل تقديم الفتوى.. وليس ليكون مرجعا.. فالمرجع هو الكتاب والسنة فقط .
ألا تستحق هذه المصيبة المدلهمة.. أن ينظر السوريون بجدية.. وتفكير عميق للبحث، والتفتيش، والتنقيب، عن حلول استراتيجية عملية، تقطع الطريق على الماكرين، والكائدين، والمخططين لهذه الكارثة؟! وتحطم وتبيد أحلامهم في مهدها؟
أليست هذه فائدة ذات قيمة عظمى وكبيرة.. تستحق التأمل والتدبر، في هذا المقال الساقط.. السافل، الحقير، الوضيع؟!
يا أمير الشباب! الكاتب أسمى، وأكبر، وأعلى، من أن تهتز شعرة في جسده لوصفك المقال بكل الصفات المرذولة، والسيئة، والذميمة..
وقد أضفت على وصفك، كل ما عندي من مفردات اللغة العربية، في وصف المقال بأبشع الصفات.. حتى يزداد سرورك أكثر.
ولكن سأبقى الأعلى بإيماني.. وعقيدتي.. كما قال تعالى (وأنْتُمْ الأعْلَونَ إنْ كُنْتُم مُّؤمنينَ) آل عمران 139.
وسأبقى أنظر إلى البشرية جمعاء من علٍ، وأرثي لحالهم، ووضعهم، المأساوي، الحزين، بأن أكثرهم لا يعلمون، وأكثرهم لا يعقلون، وأكثرهم لا يفقهون..
وهذا تقرير صانعهم.. وخالقهم، وليس هو تقريري.. وليس من عندي.. وهذا ليس استكباراً، فالفرق بين الاستعلاء والاستكبار، كالفرق بين الثرى والثريا.
ولذلك حينما تتجه الأغلبية إلى تأييد أمر تافه، وسخيف.. فاعلم أنها مصابة بالإعياء الفكري، والفقهي، والعقلي، ولو كان بعضهم صاحب اختصاص.
فالاختصاص لا يشفع لكل من يحمله.. أن يكون ناجحاً. فليس كل طبيب، ولا كل مهندس، ولا كل فقيه، ناجح..
فالقانون الرباني ينطبق عليهم وعلى غيرهم.. أن أكثرهم لا يفقهون، ولا يعقلون .
ما قيمة ملايين العلماء من كافة الاختصاص.. وهم يؤمنون بالتثليث، أو يؤمنون بقدسية البقرة، أو يؤمنون بأن علي هو الله، وغير ذلك من الخزعبلات التي تتنافى مع أبسط قواعد العقل .
هل أصحاب الاختصاص هؤلاء، شفع لهم اختصاصهم.. أن يكونوا عقلاء؟!).
الداهية الأدهى
وهنا تتجلى المصيبة الأكبر، والداهيةُ الأدهى، وتظهر حقيقة هذه القمة الهلامية. فلما أرسلت له الجواب الذي هو طلبه، وإذا به يقطع الاتصال معي، ولا يستلم الجواب.
هل ثمة إنسان فيه مثقال ذرة من عقل، وتفكير يفعل ذلك؟! ينهزم شر هزيمة، قبل أن يتلقى الجواب الذي هو طلبه، ويُلغي صداقته، وأخوته. علماً بأنه مدح المقال الذي قبله مدحاً شديداً، وأثنى عليه ثناء عاطراً قائلاً: ( بارك الله بك وبارك بقلمك وامدك الله بالقوة والإيمان).
أيُعقل أن ينقلب الإنسانُ بين عشية وضحاها، من اليمين إلى الشمال؟!
فهذا أنموذج واحد تم كشفه بقدر الله ومشيئته، وثمة نماذج كثيرة على شاكلته، لم يتم كشفها بعد. والأيام كفيلة بأن تكشفها.
التعليقات مغلقة.