أول جريدة إلكترونية مغربية تتجدد على مدار الساعة

الكتابة عن النكبة

عادل الأسطة 

الجدل حول الكتابة عن النكبة استرجاعا والكتابة عنها في لحظتها قد لا يختلف كثيرا عن الجدل الدائر بين كتاب قطاع غزة  المقيمين فيه في هذه الأيام، والكتاب المقيمين خارجه .

وهذا الجدل – إن توسعنا في معناه  – لا يختلف عن الجدل الذي كتب عنه نقاد فن القصة ، مثل محمد يوسف نجم في كتابه التنظيري ” فن القصة ” ، وكتاب النثر المحترفين، مثل الفرنسي ( جان جينيه  ) ” أربع ساعات في شاتيلا ” ( ١٩٨٢ ) ، وخضت فيه كثيرا وأنا أكتب عن روائيين عاشوا في المكان ، وكتبوا عنه مثل اميل حبيبي في كتابته عن حيفا، ومحمود شقير وعارف الحسيني في كتابتهما عن القدس  ، وروائيين لم يروا المكان، ولو من خلال زيارة ، وكتبوا عنه مثل غسان كنفاني في كتابته عن حيفا، وإلياس خوري في كتابته عن حيفا ويافا ونابلس  وجنين، وواسيني الأعرج وحسن حميد في كتابتهما عن القدس ، أو ابراهيم نصرالله في كتابته عن غزة ، وسبب لي وجع رأس، بل وعداوات نالني فيها من الهجوم ما نالني،  ولعل أبرز ما كتبته هو دراستي عن ” القدس في الرواية العربية بين كتاب الداخل وكتاب الخارج ” ومقالي ” على خطى إميل حبيبي ” الذي تناولت فيه كتابة إلياس خوري عن نابلس.

بانقضاء ١٤ شهرا على طوفان الأقصى ٧ أكتوبر وبداية الشهر ١٥، قرأنا كثيرا من اليوميات  والقصائد، ولم نقرأ قصصا قصيرة إلا نادرا ولم نقرأ روايات  ، والروايات القليلة جدا التي صدرت صدرت في المنافي حيث لم يعش كتابها التجربة من الداخل، ما أثار دهشة أبناء غزة، وربما احتجنا لمزيد من الوقت لنخوض في الفرق بين كتابات أبناء غزة ممن اكتووا بالتجربة وكتابات من سمع عنها وتابعها عن بعد.

يختلف الأمر بخصوص نكبة العام ١٩٤٨ . ومع أن الرواية لم تكن فنا مزدهرا في خمسينيات القرن العشرين ، إلا أن الشعراء وكتاب القصة القصيرة ممن كتبوا عنها في حينه كان جلهم ممن اكتووا بنارها وعاشوا اللجوء  ؛ من خليل زقطان إلى سميرة عزام فكنفاني أيضا وغيرهم ، وحتى حبيبي الذي استقر به المقام في حيفا عاش بعض فصولها، فعندما وقعت عاد متسللا إلى وطنه وكتب في روايته ” المتشائل ” عن هذا.

إن جل ما كتبه المذكورون لم يكن تاربخ كتابته بعيدا عن حدث النكبة، ولكننا بعد عقود من حدوثها صرنا نقرأ لكتاب لم تتجاوز أعمارهم يوم حدثت السابعة أو الرابعة من العمر، وهنا أشير إلى يحيى يخلف ومحمد الأسعد ورشاد أبو شاور ورسمي أبو علي مثالا، وتلاهم جيل فلسطيني وعربي مثل إبراهيم نصرالله وحزامى حبايب والياس خوري، ممن ولدوا بعد حدوثها، وآخرين .

كتب يخلف عن آثار النكبة في قصصه القصيرة المبكرة وبعض قصصه الطويلة ، ولكنه لم يقاربها في رواياته إلا منذ العام  ١٩٩٠ في   روايته ” بحيرة وراء الريح  ” التي وصف فيها قريته سمخ قرب بحيرة طبرية وهجرة أهلها منها، وعاد في القرن ٢١ ليكتب عن تبعاتها في روايتيه  ” ماء السماء  ” ( ٢٠٠٨ ) و ” جنة ونار  ” ( ٢٠١١ ). لقد كان الفارق الزمني بين زمن النكبة وزمن كتابتها أكثر من أربعة عقود، وهذا يعني أن الكتابة تتكئ على الذاكرة وتتشكل أيضا من وعي لاحق، ما يترك أثره الواضح في قدرة المكتوب على دقة وصف الحالة.

ومثل يخلف رشاد ابوشاور  . إن ما أنجزه عن آثار النكبة على الفلسطيني –  وقد عاش هو هذه الآثار في مخيمات بيت لحم واريحا  – برز أولا في روايته ” العشاق  ” ( ١٩٧٣ )، ولكن اللافت أنه ، مثل يخلف أيضا، كتب في العقد الثاني من القرن ٢١ روايتين عن الهجرة في العام  ١٩٤٨ وعن آثارها، وهما  ” وداعا يا زكرين  ” ( ٢٠١٦ ) و” ليالي الحب والبوم  ” ( ٢٠١٨ ) ، وقد صور في الأولى طفولته في قريته وأتى على سقوطها، وفي الثانية حياته في الخيام والمخيمات وبيوتها.

هل اختلف عنهما رسمي أبو علي في روايته  ” الطريق إلى بيت لحم ” ( ١٩٨٣ ) أو محمد القيسي في ” كتاب الابن : سيرة الطرد والمكان ” ( ١٩٩٧ ) أو محمد الأسعد في روايته  ” أطفال الندى ” ( ١٩٩٠ )  ؟

لا ! لم يختلفوا. كتب الأول روايته الوحيدة بعد ثلاثة عقود ونصف من الهجرة ، مسترجعا ما عاشه في الأعوام ١٩٤٨ – ١٩٥٢، وكتب الثاني كتابه بعد أربعة عقود ونصف وتذكر رحلة خروجه من قريته كفر عانة وحياته في مخيم الجلزون حتى ١٩٦٦ تقريبا. ولم يختلف الأسعد الذي استرجع رحلة الخروج من قريته أم الزينات ومعاناة الفلسطينيين الذين لجأوا إلى العراق.

لقد ولد هؤلاء  في النصف الأول من أربعينيات القرن العشرين  ، ما يعني أنهم عاشوا اللجوء مجسدا في الطرد والقتل والسكن في الخيمة لمدة عقد من الزمان  .

أدرك محمد الأسعد الفارق بين الكتابة عن الحدث في لحظة جريانه والكتابة عنه بعد عقود، فكتب  :

” لو كان لي أن أكتب هذه الرواية قبل سنوات، لاستطعت استقصاء الطرق بصورة أفضل، ولربما حفظت أسماء تغيب عن ذهني الآن ، وأماكن لا أجدها واضحة حتى في الرواية الأصلية نفسها  ، فما يقال الآن  ، يقال باختصار شديد”.

إنه يعي تماما الفارق المهم في الكتابة عن زمن مسترجع والكتابة عنه في لحظته  ، وتعد ملاحظته السابقة  ، وأسلوبه أيضا في الكتابة  ، حيث كان يكتب ما روته له أمه حين كبر  ، من أهم وأخطر ما كتب لمن يريد أن ينظر لفن الرواية موضحا مصطلحي الزمن الكتابي والزمن الروائي وتأثير الأول على الثاني ومدى صدق الكتابة ودقتها في أثناء تطابق الزمنين أو افتراقهما  – أعني أن يكتب الكاتب عن الحدث في لحظة جريانه وأن يكتب عنه بعد عقود من حدوثه ، ومثل المصطلحين مصطلح السرد نفسه صاحبه ولغته وأسلبتها  ، بل ولغة الشخصية ومستواها وادخالها في نهر  ( ليثي  ) … إلخ  .

في الحرب على غزة كتب عنها كتاب يقيمون هناك وكتب عنها كتاب من الخارج  ، ولكم كان الفارق واضحا  ، ولكم أثار هذا جدلا بين الفريقين .

 

التعليقات مغلقة.