يسجل لمغرب فجر الاستقلال ما كان من رهان تشييد وتنمية وإعادة توجيه للأمور بعد حوالي نصف قرن منالحماية، خاصةفترة ستينات القرن الماضي وماطبعهامن طموح بناء وتوحيد وتغيير ، بقدرتناغمهمع حمولةومسار حركة وطنية منذ الأربعينات بقدر رهان تنميةالبلاد من خيار وطنيطبعتهرغبة تدبير وفق مغربة محضة.
ووعيا بإعلام الجهةفي ورش الجهوية ترسيخاً لهويتها ومعالمها ومواردها، تم خلال هذه الفترة إحداث اذاعات جهوية لمِا كان عليه المذياع من سلطةٍ وقوة تأثير وتوجيهٍ وتأطير وإخبار. بحيث اختيرت فاس وجهة أولى لِما للمدينة من رمزية روحية فكرية ووطنية،لإنشاء أول اذاعة جهوية في زمن قياسي بإشراف ملكي من خلال حفل تدشين رسمي أعْطِيت فيه انطلاقة بثٍ فعلي للمحطة خلال أبريل من ألف وتسعمائة وواحد وستين،بمناسبة أول زيارة قام بها الملك الحسن الثاني لفاس بعد تولية العرش.
وكان توسيع وعاء الاعلام السمعي مع بداية الستينيات خياراً حكومياً، لِما كان عليه من قوة النفوذفي الرأي العام كآلية جديدة جاذبةأكثر حضوراًفي انشغالات الفكر والفن والخبر والسياسة… بل كان رهان المغربآنذاكانشاء اذاعات جهوية وتحقيق مشروع تلفزة مغربية،ليكون ثاني بلد عربي يحقق رهاناً البعض كان يفضل تسميته بالمعجزة.
وسعياً من قطاع البريد بالمغرب للانتقال بالاحلام الوطنية الكبرى الى انجازات على أرض الواقعتقريباً للخبر والتواصل والثقافة والمعرفة…،ووعياً بما يمكن أن يسهم بهالمذياعفي تأطير المجتمع، أقدمت الحكومة المغربية آنذاك على شراء محطة التلفزة بالدار البيضاءبكلفة بلغت مائة مليون فرنك.ولعله إجراءأبانعن درجة انشغالالدولة بما هو إعلام كمجال استراتيجي وحيوي،وعن رغبة البلادفي تحقيق انفتاح وانخراط فيماهو حديث وجديد،ما بات فيهإعلام الصوت والصورة أداة أساسية مؤثثة لاهتمامات المجتمع وانشغالاته النمائية.
سياق تحولاتفي مطلعستينيات القرن الماضيالتي اعتُبرت فترة وعود وطموحوطني عميق على أكثر من صعيد بعد صدورظهير الحريات العامة1958،جاء فيه مشروع إحداث اذاعة فاس، تجاوباً مع مكانة وموقع المدينة الحضاريوما كانت عليه من إشعاع يضرب به المثل في الفكر والفنون والثقافة.. “فاس والكل في فاس”،فضلاعما تعنيه هذه الالتفاتة من رمزية وطنية.
ولعل من جميل الاعتبار لمدينة كان لها وقعها وموقعها المعبر في ملحمة الحركة الوطنية، وعلى أساسما انفردت به من اسهامات واسعة على عدة مستويات، منها اسهامات صحافة مكتوبة ببعدوطني منذ ثلاثينات القرن الماضي،وعلى أساسأيضاً جملة مبادرات ومحطات فاصلة ومؤثرة سياسياً،فضلاعن حجم تضحيات كماباقي جهات البلاد.من جميل رد الاعتبار لها كانحدث وموعد إنشاء اذاعة جهوية بفاسكإشارة قوية لقيمة الاعلامالجهوي،ولمِا يمكن أن يسهم به في بناء ورسم معالمِأوراشِ تنمية مغرب ما بعد الاستقلال.
وكانملك البلادمَنْ أشرف على انطلاق البثمن خلال حفل رسمي ارتبط بأول زيارة لهللعاصمةالعلمية. ولعله حدث اعلامي جهوي حضر في يوميات عدة مغربية، منها “العلم” التيتناولت في مقال لها ما كانت بصدده فاس منمشاريع هامة بطابع ثقافي علمي واجتماعيمنها محطة للاذاعة. أما يومية “التحرير” التي كان يرأس تحريرها آنذاك عبد الرحمن اليوسفي،فقد أوردت في صفحتها الأولى،مقالا افتتاحياً رصدأجواء رحلة الملكمن الرباط الى فاس وما لقيه بها من ترحيب باطلاق المدافع لإحدى وعشرين طلقة.وفي مقال ثان لها تحدثت عن مشروع اذاعةٍبفاس ضمن برنامج الزيارة،ما تمتدشينه من قِبلالملك رفقة وزير البريد ومدير الإذاعة الوطنية.
خبر إحداث اذاعة بفاس خلال ربيع 1961 أوردته أيضاً جريدة”الشعب” التي كانت تصدر من طنجة،كذاجريدة”الفجر” التي كانت تصدر من الرباط وقدأشارتهذه الأخيرة في تغطية خصصتهاللحدثأن جلالة الملك انتقل الى مقر اذاعةفاس الجهوية التي استقبلفي مدخلهامن قِبل وزير البريد والبرق والتليفون ووزير الأنباء والسياحة ومديرالاذاعة الوطنية، وأنه بعد تلاوة آيات من الذكرالحكيم والانصات لوصلات جوقي طرب الآلة وفن الملحونغادر جلالته الاذاعة بنفس ما استقبل به من حفاوة وترحاب.
ومن اليوميات الفرنسية التي كانت لسان حال المعمرين زمن الحماية بالمغربوالتي استمرصدورهالسنوات بعد استقلال البلاد، أوردت “لافيجيمروكان”في صفحتها الأولىمقالا حول حدث انشاء اذاعة فاس،ما اعتبرته بقيمة هامةضمن رهانات النماء المحلي وسياسة اللامركزية في مغرب الاستقلال. نفسها اليومية أفادت حول تدشين الملكللاذاعةأن من الشخصيات الحكومية المسؤولة عن قطاع الاعلام التي كانت في الاستقبال،هناك وزير البريد”الشرقاوي”ووزيرالاعلام والسياحة “أحمد العلوي” ثمالمدير العام للاذاعة المغربية “محمد المختارولد البا”اضافةللمهندس الرئيسي المسؤول بالإذاعة”عبد الحق بن كيران”.
ومن التجارب الصحفية الأولى بالمغرب على عهد الحماية منذعشرينات القرن الماضينجد يومية” لوبوتيماروكان” التي خصصت سلسلة تغطيات لحدث تدشين الاذاعة الجهوية بفاسأشارت فيها لِما كان عليه حفل استقبال الملك من حفاوةوباقات ورود وثمر وحليب، ومن ترحيب على ايقاع طرب الآلة الذي كان يطبع المدينة ويميزها، حيث تم اعطاء انطلاقة البث رسمياًبضغط جلالته على زر التشغيل الخاص بجهاز الارسال الاذاعي Emetteur.
هكذا تمكنت اذاعة فاسبايقاع جهوي جديد منذ بداية ستينات القرن الماضي،من بناء ونسج ونحت موقع متميز لها، ومن بلوغ وتحقيق عمر اعلامي زاخر بحوالي ستة عقود من الفعل والتفاعل والانجاز والعطاء والوصل والمودة والخبر والقرب والبهاء والأرشيف..، ما يذكره ويشهد به كبار المثقفين والمبدعين والاعلاميين المغاربة. ويكفي أن جلمنأثثزمن الأغنية المغربية الذهبي وصنع مسارها الحديث وتميزها الشامخ خلال ستينات وسبعينات وثمانينات القرن الماضي كانت اذاعة فاس مدرسته الأولى،ولعل الزائر لاذاعة فاس يجد نفسه وهو في بهو هذه المحطة الاعلامية المغربية التاريخية،محاطاً بما يحتويه ويحفظه المكانمن صور مبدعين ومطربين وموسيقيين تراثيين مغاربة كبار، هم برمزية خاصة في ذاكرة اذاعة فاس.بل كانت هذه الاخيرة بفضل في ابرازمواهب أصوات فنية طربية مغربية صنعت ربرتواراً غنائياًوطنياً خالداً، من عيار عبد الهادي بالخياط ،عبد الوهاب الدكالي، عبد الرحيم السقاط، محمد المزكًلدي، محمد فويتح، المعطي بلقاسم، أحمد الشجعي،فتح الله المغاري، عبد الرفيع الجوهري، محمد بوزوبع، الطيب العلج، عبد الكريم الرايس، مولاي احمد الوكيلي..، وغيرهم كثير ممن كانوابأثر معبر في مجد الأغنية المغربية وهيبة مقامها ومقاماتها وبهاءها عزفاً ولحناً وزجلا غنائياً عميقاً. ويكفي التأمل في ذخيرةما لا تزال تحتويه خزانةاذاعة فاس،وما يحفظهأرشيفها الفني من تسجيلات نادرة لأروع ما أغنى به السلفالمغربي مجال الطرب والغناء وموسيقى التراثبشتىألوانها وأصنافها، لمعرفة ما كانت عليه هذه الدار وعلى امتداد عقود من الزمن من ديناميةٍ واشعاعٍ ودفئ لابداع حقيقي ومبدعين.
مغردة إذن كانت ولا زالت اذاعةفاس شامخةمتألقة مفعمة بحيويتها وعمقها التاريخيعلى ايقاع نغم مجالي جهويمتميز،لمِا هيعليه من تراكم وتجارب وخبرات وإرث مهني وما كانت عليه ولا تزال من كفايةمؤطرة لفعلها وتفاعلها، مستحقةًبذلك أسرةًإعلاميةً وذاكرةًمعاً وقفةَ إجلالٍ وإكبار في ذكرى تأسيسهاوبمناسبة مرور ثمانية وخمسين ربيعاً من بثها وأثيرها وتألق إعلامييها وتفرد وتنوع عطاءها وغنى ذاكرتها.
ولعل ذكرى تأسيس اذاعة فاس الجهوية قبل حوالي ستة عقود، مناسبة لاثارة ما ينبغي من عناية وإلتفاتٍللاذاعات الجهوية المغربية قديمها وحديثها، وما ينبغي من إنصاتٍلحاجياتها المادية التقنية والتدبيرية والبشرية، للقيام بما هو منوط بها من أدوار حفاظاً على مسارها وسيرها ورسالتها الاعلامية،وتناغماً مع مبدأ القرب وما هو منشود من جهوية متقدمة وتدبير واستثمار واشعاع وتنافسية ترابية.
التعليقات مغلقة.