نقطة نظام
رضا سكحال
فنذ السنوار، البطل المغوار، كل الشائعات التي كتبت بمقرات المخابرات الصهيونية، والتي حاولت النيل من سمعة الرجل، وضرب مصداقيته التي تمتع بها حين كان أسيرا في سجون الاحتلال.
روايات حقيرة حاولت النيل من شرف لا يمكن للعار أن يطاله، لأنه وبكل بساطة صادق في زمن الزيف، وفي زمن التطبيل بالمزمار والدف.
“السنوار” يختبئ تحت الأنفاق، “السنوار” فر خارج القطاع، “السنوار” ترك شعب غزة يواجه مصيره، وغيرها من سم دس جيدا وسط أخبار القذارة التي زكمت رائحتها أنوف الشعوب العربية، رددتها بعض من قنوات (العرب) وجرائدهم، ومن لف لفهم ممن باعوا ضمائرهم مقابل الشيكل، فسال لعاب مذيعيها وكتابها العموميين طلبا لمجد مزيف، وشهرة زائلة…فاختار/ن الارتماء في حض أحفاد عصابات الهاجانا.
لهذا تنافس الكتاب العموميين على أقذر قلم يغمض عينيه على جرائم التطهير العرقي الذي تقوم به اللقيطة، ولهذا أيضا تنافست مذيعات العمليات التجميلية، على لقب ابنة الخطيئة التي تستطيع تحريف صور الدمار الذي لحق قطاع غزة، وتوجيه اللوم إلى الطرف الضحية، وإلى صاحب الحق الذي يدافع عن أرضه وشرفه.
وبكل أسف، لم تكن هؤلاء المذيعات تعرفن ما هو الشرف أصلا، ولا هؤلاء الكتاب يعرفوا معنى عزة النفس والنخوة.
لهذا كان لا بد من هذه المقدمة، ولهذا كان لا بد للمداد أن يسيل ويتدفق بغزارة، لأننا أمام حدث استثنائي، ورجل استثنائي، وأمام شعب استثنائي، وكذلك هو المكان استثنائي أيضا، فكان لازما تعرية أبناء الخطيئة من خلال هذا التعريج.
ولو حدث وأن طلب من مخرج بمدينة هوليود السينمائية تجسيد لقطة يقاوم فيها البطل الذي ينتمي إلى المقاومة جحافل جنود الاحتلال، لن يستطيع تجسيد ما فعله السنوار بالواقع.
فمهما بلغت مهاراته في الكتابة، ومهما بلغت جمالية حروفه، ومهما كان بارعا في الوصف، ومهما كان دقيقا في ملاحظة التفاصيل، ومهما كان رائعا في الإخراج، فلن يستطيع أن يعطينا لقطة مثل اللقطة التي شاهدنا فيها “السنوار” هادئا على أريكة، يقاتل وحيدا فرقة بأكملها من جيش احتلال يملك أحدث المعدات، يرمي القنابل بثقة، ويقذف مسيرة بعصاه، لتفر بعيدا بعد أن أدركت أنها أمام رجل استثنائي.
ولك أن تتخيل، أن رجلا وحديدا بيد واحدة، وبجسد ينزف بعدما اختراقه الرصاص. يقاتل فرقة بمدرعاتها وبطائرتها، وبقنابلها، ودباباتها، حيث عجزت برغم كل هذا الذي تملكه من عدة وعتاد، أن تقتحم مكان “السنوار” وهو الوحيد الجريح، بل وبيد واحدة بعد أن فقد يده الثانية.
أي مشهد هذا يا يحيى الذي قمت به، وأية بطولة هذه يا يحيى التي سطرتها، وأي مبدأ هذا، وأية مقاومة هذه التي كتبتها وحيدا في منزل محطم، تواجه فرقة بكل عدتها وعتادها وجهوزيتها!
كيف لا نزفك عريسا للشهداء، وكيف لا نفرح بالطريقة التي استشهدت بها، وكيف لا ننعيك بطلا للأمة الثكلى، وكيف لا نعلن حبنا وانتماءنا لك يا يحيى.
كذبت كل ما قيل في حقك، حين كنت تقاتل من الميدان، وسط زخات الرصاص، على الرغم من أنه كان بإمكانك أن تتحصن بأي نفق من أنفاق المقاومة، لكنك رفضت ذلك، وقررت خوض التصدي ميدانيا، كنت الممانع الذي تجسد في هيئة جيفارا الزمن الفوري، من قال أن جيفارا مات، ومن كذب علينا بتزييف موت المختار وعبد الكريم الخطابي، وغيرهم من الأبطال، كل هؤلاء تجسدوا فيك، حين كنت تقاتل بشراسة وحيدا بعد استشهاد رفيقيك.
استشهد البطل تابتا، مشتبكا، مقبل غير مدبر، وأسقط مجدا مزيفا حول عظمة الكيان المزعوم، حين قاتل وحيدا جيشا عمرك بيد واحد، بمسدس وعصا وبعض القنابل اليدوية، مهلا، وبعزيمة قوية صلبة كالفولاذ، شامخة كالجبال، عصية هي على الطي والكسر، كصخرة متجذرة، حين تنهار تكون كالزلزال، تحدث هزة ورجة يشعر بها الجميع.
استطاع الاحتلال القضاء على جسد يحيى، بعد أن واجهه بالمدفعيات والطائرات المسيرة، وفرقة تضم أعدادا كبيرة من الجنود، ولك أن تتخيل القصة، التي لو قرأنا عنها دون مشاهدتها لما كنا أن نصدقها.
لكنهم في المقابل عجزوا وسيعجزون عن القضاء على فكرة المقاومة، وعلى فكرة الممانعة، وعلى فكرة العداء التاريخي لدولة الكيان، وعلى الحفاظ على ميثاق الشرف الذي يسلمه جيل لجيل، عنوانه العريض، لا تصالح، كتبه منذ زمن شاعر بهية المبدع، أمل دنقل. وظل يتردد وسيظل كذلك، إلى أن تنتصر الفكرة، والتي لن تموت، لأن أصحابها لا يعيشون منها، بل يعيشون من أجلها.
لا تصالح، كتبها دنقل، وجسدها بدم النزيف غسان كنفاني، ورسمها بدموع الشتات ناجي العلي، وترجمها ياسر عرفات بكوفيتة الشامخة، وأكدها الحكيم حبش رفقة الرفيق وديغ حداد، وهاهو “السنوار” يكتبها من جديد، وبطريقة أسطورية، بيد واحدة هزمت جيشا، عجز بكل ما يملك دخول الحطام من ما تبقى من ممراته، خوفا من رجل ينزف يملك ذراعا واحدة.
وهذا يكفي القضية لمدة عشرات السنوات القادمة…وداعا يحيى، حق لنا أن نفخر بك وبكل المقاومة.
التعليقات مغلقة.