إذا كنت في المغرب فلا تستغرب، مثال مغربي يحلو للمغاربة استعماله لتبرير الكثير من القضايا التي تسجلها البلاد وهو مثال يغني المرء عن الاجتهاد للتبرير أو للدفاع رغم التناقض البين مع المنطق. وهذا التناقض مع المنطق هو الذي أصبح يميز ظاهرة الهجرة، حتى أصبح المرء يتساءل هل يتعلق الأمر بالواقع؟ أم بأخبار «فيك نيوز» أي المغلوطة عمدا.
ويعيش المغاربة خاصة في الشمال على إيقاع الجدل الدائر حول «الزورق المنقذ» الذي ينتظره الجميع مثل انتظار مؤمني الديانة المسيحية عودة المسيح والإسلامية عودة المهدي المنتظر. وكان بليغا الوصف الذي كتبه الناشط المهدي مدى، في وصفه للزورق في شبكة التواصل الاجتماعي «يتحدث الجميع عن الفرسان الثلاثة، الذين يمتطون زورقهم النفاث… بلونه الأسود ومصابيحه البيضاء التي تُرى من بعيد وهم يشقون عباب البحر بثبات. ينتظره الأطفال والشباب بشوق وحرقة وأمل في غد أقل قسوة من يومهم.. واضعين قلوبهم بين أياديهم… هي إذن معركة من أجل الوصول إلى الضفة الأخرى أو نيل شرف المحاولة والموت».
وهكذا، فمنذ أسبوعين وزورق غريب يحمل شبابا من الإناث والذكور إلى الضفة الأخرى، والمثير هو قيامه بهذه المهمة مجانا بدون مقابل، وكأنه فاعل خير، وهو أمر جديد في ظاهرة «الهجرة السرية» التي تخضع لقوانين وأعراف مافيات تهريب البشر. وتسبب هذا في موجة من الشباب المرابطين أمام البحر في انتظار قدوم «الزورق» العجيب أو «زوارق الخلاص» كما تسميها الصحافة. وما يثير الانتباه أكثر هو تصريحات بعض الشباب في يوتيوب «لقد كان الشعار في الربيع العربي هو إرحل»، في إشارة إلى رحيل الحكام في العالم العربي، «أما الآن فنحن كشعب نرغب في الرحيل وترك البلاد للحاكمين». تصريح الشاب يحمل دلالة خاصة، لم يسبق للمغاربة المطالبة برحيل النظام الملكي الحاكم، فقد اقتصرت مطالبهم على إصلاح سياسي، يجلب معه إصلاحا حقيقيا ضد الفساد، الذي ينخر البلاد بشكل مرعب، جعل من المغرب بكل إمكانياته وتاريخه العريق يحتل المركز 123 في التنمية البشرية. أما الآن، فالوضع اختلف، الشعب هو الذي يحمل شعار الرغبة في الرحيل أي «الشعب يريد الرحيل». لم يحدث هذا فقط في شواطئ شمال البلاد، بل اتخذ شكلا رمزيا في مناطق أخرى، فقد انتفضت ساكنة ضواحي عين السبع في الدار البيضاء الأحد الماضي وطالبت بإسقاط الجنسية عنها مرددة شعار «الشعب يريد إسقاط الجنسية»، وعلى بعد مئات الكيلومترات، وفي المباراة التي جمعت فريق نهضة بركان وفيتا كلوب الكونغولي في دوري الكاف الإفريقي، حمل جمهور مدينة بركان في الملعب لافتة كبيرة كتب فيها «آسف يا وطني… أنهكونا فاخترنا الهجرة».
يسجل المغرب العديد من الحالات لتظاهرات واعتصامات بشكل يومي لمواطنين يعربون عن اليأس من البقاء في الوطن، جراء ارتفاع الظلم الاجتماعي، لكن تبقى حالة انتظار مئات الشباب حتى لا نقول الآلاف لظهور الفانتوم لنقلهم إلى البر الإسباني. حالة فريدة من نوعها لا تقل غرابة عما حدث خلال شهر رمضان الماضي، عندما ادعى شخص في بلدة سرغينة وسط البلاد وجود كنز سيجعل المغرب في مصاف الدول الغنية. وتوافد عشرات الآلاف على المكان في اليوم الموعود لاستخراج الكنز، ولم يجدوا سوى السراب. السراب نفسه الذي استيقظ عليه الشعب المغربي العقد الماضي عندما هللت الدولة بوجود البترول في منطقة تالسنيت شرق البلاد، ليتضح لاحقا أنه مجرد سراب ليس إلا. دائما شبكات التواصل الاجتماعي تكشف عن مواقف وآراء عميقة للمجتمع، قال شاب في تبريره لماذا يرغب في الهجرة وينتظر زورق الفانتوم «حياتي صعبة في ظل البطالة، وإذا طالبت بحقوقي في الشغل والصحة والتعليم سأتعرض للسجن عشرين سنة، كما وقع مع شباب الريف (في إشارة الى الأحكام ضد مجموعة الزفزافي بعشرين سنة)، لهذا أفضل الرحيل عن هذا البلد بدل البقاء».
وسط هذه التطورات، ترغب الدولة في إيجاد حلول، لكن وعودها تبقى مجرد «فيك نيوز»، اي الأخبار المغلوطة التي لا يثق فيها الشباب ويرغبون في الهجرة. لقد فاجأ الناطق الرسمي باسم الحكومة مصطفى الخلفي الرأي العام عندما قال «على الشباب أن لا يهاجروا، فالمغرب يوفر فرص شغل هائلة»، تصريح أثار من السخرية والضحك أكثر من أفلام تشارلي شابلن بسبب الشرخ الكبير بين قتامة الوضع الاجتماعي وتصريحات الوزير. في الوقت ذاته، يتفاجأ الكثيرون بتقديم الدولة للشطر الثالث لما يسمى مشروع التنمية البشرية، علما أنه منذ بداية هذا المشروع سنة 2005 في شطره الأول ثم الثاني يزداد المغرب قتامة، خاصة في الجانب الاجتماعي، بعدما توارى الاهتمام بما هو سياسي إلى الوراء نتيجة ضغط الواقع.
ما يجري في المغرب من تدهور اجتماعي، ورغبة الكثير من المواطنين مغادرة البلاد ، يحتم الاعتراف بصعوبة الواقع المر والتخلي عن الشعارات الجوفاء، وفي المقابل الانكباب على إيجاد حلول واقعية بعيدا عن سياسة الهروب الى الأمام مثل تبني مزيد من المشاريع التي أبانت عن فشل ذريع مثل مشروع التنمية البشرية.
القادم بوست
التعليقات مغلقة.