من أهميته البالغة، أصبحت العديد من الهيئات على اختلاف مهامها واهتماماتها، تعتمد عليه بشكل مباشر في صلب اعمالها، أو بشكل غير مباشر فيما يكون لها من علاقات وشراكات مع جمعيات المجتمع المدني وهيئاتها الموازية واتحاداتها الفئوية والوطنية، والتي أثبتت جدارتها ومردوديتها في العمل المدني بمختلف مجالاته، فأصبحنا نرى المؤسسة الجمعية.. والجماعة الجمعية.. والحزب الجمعية.. إن لم يكن في بعض الأحيان الدولة الجمعيات؟؛ترى، لماذا هذا الاهتمام البالغ بالعمل المدني خاصة في شقه الجمعوي؟، وما هي رهاناته التنموية والاجتماعية؟، وما هي التحديات التي ستحول دون الاستفادة منه بأبسط الأشكال الواقعية وعلى أكمل الأوجه الممكنة؟.
رهانات العمل المدني الجمعوي متعددة، يمكن إجمال الأساسي منها في:
1– رهان الحق في حرية التعبير والمشاركة في التغيير: بما يعني ذلك الحق في الانتظام.. في التعدد.. في الاعتراف بالآخر.. في تدبير الاختلاف.. في التعاون على المشترك.. في التربية على القيم والمواطنة والتداول على المسؤوليات.. بشكل ديمقراطي وحقوقي.. في ما يخص الجميع والاهتمام بالشأن المحلي والوطني على كافة المستويات؟.
2– رهان الفهم العميق والانجاز الدقيق: “لأن التصور عنوان التصرف – كما يقال – لذا ينبغي الفهم العميق لمختلف الظواهر السياسية والاجتماعية.. التربوية والثقافية.. والتي ليست بسيطة بالشكل الساذج والعاطفي والمزاجي والتجزيئي الذي نتناولها به أحيانا، مما لا يزيد البحث عن حلول مشاكلها في غياب البحث العلمي والفهم الصحيح والتفاعل الجماعي والتداول الاجتهادي، إلا تأزما واستفحالا، وليس عبثا أن أحزابا وحركات كانت كل بداياتها المتألقة مدنية حارقة، وتصرفاتها من تصوراتها العقدية، فلما انحرفت التصورات ومعها السلوكات والتوجهات والمواقف النضالية ككل؟.
3– رهان سياسة القرب والتنمية المستدامة والاقتصاد الاجتماعي: باعتبار العمل المدني الجمعوي يهتم أساسا بالفئات الهشة، في فهم همومها.. تقديم خدمات لها.. وإحكام مرافعات من أجلها.. حتى أن الدولة في كثير من مشاريعها إنما هي استجابة لمرافعات المجتمع المدني، واستفادة مما خبره عن قرب ويمثله من فئات، بدل الركون إلى تيه وعجز قطاعاتها البيروقراطية، المتعالية، المكبلة بالإكراهات والإملاءات؟، أضف إلى ذلك أن الدولة النامية اليوم، أصبحت تستثمر في الاقتصاد الاجتماعي لجمعياتها وهي بالآلاف، وأنشطتها المذرة للدخل وهي تسجل أرقاما معتبرة في الدخل القومي وساعات هائلات من التطوع ومحاربة البطالة وتنشئة الأطفال واليافعين واستيعاب النساء والشباب؟.
4- رهان المواكبة والتجديد ومقاربة الإلتقائية والديمقراطية التشاركية: حسب ما يعتمل في البلد من أحداث ومجريات وما تكون له من رجع الصدى لرهانات وصراعات دولية.. نقاش عمومي.. قوانين جنائية.. أدوار دستورية جديدة.. بما في ذلك أدوار الرقابة على المسؤولين والحكامة في التدبير والمرافق.. وتخليق الحياة العامة وربط المسؤولية بالمحاسبة، خاصة ما تتيحه الفصول 12..13..15.. من الدستور للمجتمع المدني من حق التشاور العمومي وتقديم العرائض والمذكرات.. ومسؤولية المشاركة في وضع السياسات العمومية وتنزيلها.. مراقبتها تقييمها وتطويرها؟.
5- رهان انتاج وتكوين عموم النخب المدنية والاصلاحية: فالعديد من المؤسسات تتكسر مشاريعها وتتعثر برامجها تحت تأثير قلة العنصر البشري المؤهل أو ضعفه أو غيابه، ناهيك عن عجزه وانحرافه وفساده أحيانا، والعمل المدني بمختلف كلياته ومعاهده وجمعياته الميدانية وأكاديمياته التدريبية كان على الدوام مدرسة لتخريج الطاقات والزعامات الوطنية ومشتلا لتنمية المهارات الإنتاجية والقدرات الإصلاحية في مختلف مجالات الإصلاح والتنمية المستدامة، التي تتوسل في تدخلاتها الناجحة بمخرجات البحث العلمي الذي يقصم ظهر التخلف الاجتماعي المزمن.
وللعمل المدني الجمعوي أيضا تحديات جسيمة وحاسمة، دون رفعها، من الصعب أن يصل إلى تحقيق ما سبق من الرهانات على نبلها وأهميتها في حياة الوطن والمواطن، ومن تلك التحديات:
1– تحدي الاستقلالية والأصالة: الاستقلالية عن السلطة والخضوع لتوجيهاتها.. ضغطها وإغرائها.. عن الأحزاب ومجالسها الجماعية وسياستها السياسوية.. عن الهيئات والمنظمات الخارجية.. وغيرها من الهيئات التي تستغل العمل المدني سواء بالدعم أو التضييق أو الانحياز العصبي.. دون وجه حق ولا قانون مما سيخرج هذا العمل المجتمعي النبيل عن أصالته الكونية وسماته التاريخية التي كان يعرف بها على الدوام، من الاستقلالية والسلمية.. والحرية والانتظامية والتطوعيةوالعمومية..؟.
2- تحدي الرؤية الواضحة والرسالة الهادفة: رؤية واضحة لأهداف العمل المدني المعاصر ومدى ملائمتها مع الإشكالات القطرية والكونية المطروحة والمزمنة والفئات الاجتماعية المستهدفة والفضاءات والامكانيات والطاقات المتاحة..؟، والرسالية وهي الفعالية في القدرة على بلورة هذه الرؤية على أرض الواقع باعتبار الزمان والمكان، والحفاظ على نصاعتها أمام ما قد يعترضها في زحمة الموجات المغرضة للجمعيات “الضرار” ومشاريعها التمييعية في الريعوالتحكم والنكوص، أو تجديد تلك الرؤية والرسالة وفق المستجدات والتحديات، ولكن، بعيدا من أن ينقلب “مشروع الثقافة إلى ثقافة المشروع“، وليس من أهدافك؟.
3- تحدي الهيكلة الوطنية والائتلافية الموسعة: الهيكلة الوطنية الكفيلة بتعميم الرسالة على أوسع نطاق ممكن ف“الخير ما عم وانتشر لا ما خص وانحصر“.. الهيكلة المتخصصة في مختلف فئات الأطفال والنساء والشباب والشيوخ والمعطلين وذوي الاحتياجات.. وفي مختلف حاجياتهم التربوية والثقافية والإبداعية.. الفنية والرياضية والاجتماعية.. والقادرة على تقديم الخدمات وحسن التوجيه وخلق الدخل وتلبية الحاجيات.. والقادرة على الدخول في ائتلافات موضوعاتية محلية وجهوية.. وطنية ودولية على حد قولهم: “اعمل محليا.. وفكر دوليا“؟.
4- تحدي المعيارية والجمالية أي الحرفية والاتقان: بدل الهواية والارتجال والاستمرار على ذلك عندما لا تكون الأعمال والتخصصات قد استكملت طيفها التربوي والثقافي.. الإبداعي والجمالي.. ولا تسعى إلى ذلك.. لا إلى تأسيس منتديات ولا ملتقيات.. ولا بيوت حكمة ولا اتحادات وروابط مدنية.. أو تفعل بعض ذلك ولكن بمعايير جمالية مبتدئة وبدائية تنفر أكثر مما تجذب.. حكاية عرض إنشادي أو مسرحي فيه من الفراغ والفوضى وسوء التنظيم والرداءة ما فيه، ورغم ذلك يعتبر مقدموه أنهم على شيء لمجرد أنهم قاموا بذلك ولو دون اعتبار المعايير المعتبرة؟.
5- تحدي التكوين والتكوين المستمر والتنادي والاستمرارية: تكوين الفاعلين المدنيين في مختلف التخصصات والتقنيات والمهارات.. بأنجح وأنجع التكوينات التي تثري أفكارهم وتنمي قدراتهم وتنوع مهاراتهم.. بما يجعل منها قيمة مضافة تحفزهم على التشبث بهيئاتهم المدنية والإخلاص في الانتماء لها والعمل فيها بشوق ومحبة والإنتاج فيها بيسر ومتعة.. والاستمرارية فيها بدل المرور فيها مرور الكرام وهجرها إلى غيرها من المرافئ التي قد تكون الأدنى بدل التي هي خير، ولا شك أن التنادي الوطني والدولي بين الفاعلين المدنيين في منتديات صيفية خاصة (سياحة وتكوين) مما سيثري ويجدد قناعاتهم وينظم أعمالهم ويوسع آفاقهم ويضمن مشاركة الجميع في التفكير والاستيعاب والتنزيل.. وكل هذا مما سيؤمن مسارهم ويثمر نضالهم ويحصن اختيارهم ويعطي استمرارية حياة لرسالتهم ومؤسساتهم؟.
الأكيد، أن هناك تحديات أخرى خاصة ما يتصل منها بالشفافية في التعامل مع الجمعيات (دابة سوداء)،والورش التشريعي لتجديد منظومة العمل الجمعوي المتقادمة، والمعرقلة أكثر لحساسية من الجمعيات الجادة والهادفة تتسع معاناتها كل يوم بقدر ما يتسع طيفها وامتدادها وإنجازها، خاصة في ما يخص حرمانها من المنح والشراكات والتشاور العمومي والرخص والفضاءات العمومية و وصولات التجديد التي قد تصل أحيانا صلافة التدخل في تكوين مكاتبها وفضاءات عملها..، ولكن كل هذا سيبقى مرتبطا بالعقليات والمسؤوليات في بعض المدن والجهات.. وكذا بعض الجمعيات ونوع الترافعات.. وبعض الرياح المعاكسة لبعض العواصف السياسوية.. التي لن تكون لها أية مصداقية في كل ما تدعيه من مصلحة وطنية ورغبة تنموية دون تجديد قانون الحريات العامة الحالي وتفعيله على أرض الواقع بكل شفافية دون تأويلات ولا انحيازات، مما يضمن تطبيقه تطبيقا قانونيا دستوريا.. وطنيا تنمويا.. مدنيا مستوعبا.. ميسرا وسليما.. كان لمن كان من السلطات والجمعيات أو كان عليهما؟.
التعليقات مغلقة.