عنتر بن شداد صاحب الغاية العظيمة والآمال البعيدة

عَـاتِـبُ دَهـرَاً لَا يَليـنُ لِعَاتِـبِ * وَأَطلُبُ أَمنَاً مِن صُرُوفِ النَوَائِبِ

وُتُوعِدُنِي الأَيَامُ وَعَداً تَغُرُّ بِي * وَأَعـلَـمُ حَـقَـاً أَنَّــهُ وَعـــدُ كَـــاذِبِ

في هذه القصيدة يبث عنترة خواطره التي تملأ عقله وقلبه وتكاد تفتك بروحه ولا متنفس له غير الشعر فنجده قد ابتدأ القصيدة بعتابه للدهر ذلك الدهر الذي لا يسأم ولا ينفك عن إيذاء عنترة ولكنه بالرغم من كل هذا العتاب لا يلين ولا يرق لعنترة الذي أنهكته صروف النوائب أي صنوف وأشكال الصعاب والمعاناة لدرجة أنه صار يطلب الأمن والأمان منها.

وكما يعاتب عنترة ذلك الدهر يشكوا حال الأيام معه وما كان منها من وعود وآمال أطمعته بها وهي في الحقيقة لا تزيد على أن تغريه بتلك الأحلام فتستنفذ عمره وتهلكه وما ذلك إلا لأنها من جنود ذلك الدهر الذي يعادي عنترة ولكن عنترة يعلم جيدا أنه ليس لتلك الأيام وعد صادق وأن الزمان دوار ولذا لا يغتر بتلك الوعود لأنه يعلم علم اليقين أنها وعود كاذبة.

خَـدمـتُ أُنَـاسَـاً وَاتخَـذتُ أَقَارِبَــاً * لِعَونِـي وَلكِـن أَصبَحُـوا كَالعَقَـارِبِ

يُنَادونَنِي فِي السِلمِ يَا ابنَ زَبِيبَـةٍ * وِعِندَ صِدامِ الخَيلِ يَا ابنَ الأَطَايِبِ

وَلَولَا الهَوَى مَا ذَلَّ مِثلِي لِمِثلِهِم * وَلِا خَـضَعَـت أُســدُ الـفَـلَا لِلثَّعَالِـبِ

إن صاحب الغاية العظيمة والآمال البعيدة في أول سعيه وسيره لتحقيق هذه الآمال والغايات في حاجة للعون والمؤازرة من القريب والبعيد وهذا ما فعله عنترة فكم أدت خدمات جليلة لمعارفه وكم أدنى إليه من أقاربه كل هذا رجاء أن يكونوا معه وعزا له إذا ما تطاول عليه سفيه ولكن لم يكن منهم غير الجحود والنكران حتى من أقاربه الذين لا يُنتظر منهم ذلك فكانوا كالعقارب كناية عن الغدر وذلك معنى قوله (أصبحوا كالعقارب).

ولم يكن الغدر فقط من صفاتهم بل النفاق من أبرز تلك الصفات ذلك أن من مظاهر هذا النفاق إذا ما كانت الحرب واشتد القتال وكانت الغلبة للأعداء يأتون إليه مهرولين راجين أن يعينهم ويقاتل معهم ويتملقونه بأطيب الأسماء والألقاب وإذا ما كانوا في حالة سلم يعيرونه بسواد جلده وينادونه باسم أمه فيا لهم من أقارب ويا لهم من أعوان اتخذهم عنترة.

ثم نرى عنترة يعتذر لنفسه في المقام الأول ثم لمن يلومه على اتخاذ مثل هؤلاء الأنذال أعواناً له فيقول إنه لولا الهوى ما تذلل إليهم ولا احتاج لأمثالهم لكن ما الذي يقصده عنترة بقوله الهوى؟ أرى أنه يقصد رغبته وطموحاته وأحلامه وآماله التي كان يرجوا أن يعينوه على تحقيقها والوصول إليها وربما كان يقصد حبه لابنة عمه التي كان دوماً يتودد لأبيها مالك بن معاوية بن قراد العبسي رجاء أن يزوجه بها ولكنه مان يصر على أن يحول بينه وبينها ولولا كل ذلك ما ذلت أسد الصحاري وسباعها لمثل هؤلاء الثعالب.

فَيَا لَيتَ أَنَّ الدَّهرَ يُدنِـي أَحِبَّتِـي * إِلــيَّ كَـمَــا يُـدنِــي إِلـــيَّ مَـصَـائِبِـي

وَلَيتَ خَيَالاً مِنكِ يَا عَبـلُ طَارِقَـاً * يَرَى فَيضَ جَفنِي بِالدُّمُوعِ السِّوَاكِبِ

سَأَصبِرُ حَتَّى تَطرُحُنِي عَوَاذِلِي * وَحَـتَّـى يَضِـجَّ الصَّبـرُ بَيـنَ جَوَانِبِـي

مَقَامُكِ فِـي جَـوِّ السَّمَـاءِ مَكَانُـهُ * وَبَاعِـي قَصِيـرٌ عَـن نَـوَالِ الكَوَاكِـبِ

استعطاف وحنين ومناجاة للمحبوب ومن ثم عتاب على الدهر ذلك الدهر الذي ما يزال مستمرا في التفريق بين عنترة ومحبوبته عبلة كأن لا شاغل له إلا ذلك وكما يباعد بين عنترة وبين أحبته يسعى للتقريب بينه وبين المصائب والمحن فليته كان يقرب أحبة عنترة إليه مثل تقريبه لتلك المصائب والبلايا.

وقد بلغ الحزن من عنترة على فراق محبوبته أن صارت عيناه تبكيان حتى فاض البكاء أي زاد وكثر فليت خيالك يا عبلة يسموا بك فترين حالي وترثين لحزني وبكائي ولكن اعلمي يا عبلة وليعلم من يلومني في محبتي أنني سأصبر وأجتهد في الصبر حتى يمل مني من يلومونني وحتى يتعب الصبر من صبري وذلك معنى قوله (تطرحني عواذلي) وقوله (يضج الصبر بين جوانبي).

وفي النهاية يختم عنترة حديثة مع عبلة موضحا أنه لا عجب في صعوبة الوصول إليها لأن من كانت مثلها مقامها في جو السماء بين النجوم العاليات وأن يا عبلة باعي أي ذراعي قصير عن الوصول لهذا المقام.

التعليقات مغلقة.