8 مارس، من الأممية إلى المغربة، ماذا تحقق؟

محمد حميمداني

تطل علينا 8 مارس وككل سنة، لنقف على أطلال كشكول اللغة المعد سلفا للبكاء والرثاء أو التعبير عن أماني التبريك للمرأة بعيدها، أو لتبجيح العبارات بأركان التضامن اللغوي بصيغة المؤنث، ليمر اليوم كما سائر أيام السنة بسلام، وتبقى الأحلام الوردية ممتدة عبر أريج مروج المعاناة، ومحبرة المداد الأسود الذي جف من كثرة النواح وشبقية الدعاء والتراتيل المقدسة نصا أو دستورا، لتبقى المرأة والقضية في أثون نمطية قاتلة من الذات و إلى الذات، وتيهان مفروض بقوة أركان متعددة، أهمهما الركن الأنثوي نفسه باعتباره المدخل للنضال من أجل السنة و ليس اليوم فقط.

نقف اليوم لإلقاء نظرة حول حدث عالمي تبنته الأمم المتحدة، مخصصة يوما للاحتفاء به مرصعا بلون الكونية، وهو اليوم العالمي للمرأة، الذي يصادف 8 مارس من كل سنة، فكيف سنقف أمام الذكرى – القضية؟ وماذا تحقق من المغربة المستقاة من تجارب النضال الأممي؟

حدث هام، مر من خلال مجموعة من المحطات التاريخية التي حملت للعالم مآسي إنسانية عاشت و تعيش تحت وطأتها المرأة ، سواء في سوق الشغل، أو في البيت، أو في الشارع، وهو الحدث الذي أنزل آلاف نساء الولايات المتحدة الأمريكية للاحتجاج على أوضاعهن المزرية، وغياب العدالة في العمل كما في الشارع، وعدم التوفر على الضمانات القانونية التي تحمي المرأة أثناء مزاولتها لمهامها، وهي الأوضاع التي فجرت إضراب عاملات صناعة الملابس في نيويورك وجمعتهن في وحدة الاحتجاج ضد ظروف العمل القاسية التي يعيشون في كنفها، فيما  أصبح يعرف لاحقا بتاريخ “الخبز و الورد”.

تمرد اجتماعي ملون بنون النسوة شكلا، وبرفض كل أدوات الظلم مجتمعيا موضوعا، وهو ما فرض على المسؤولين والسياسيين في آن واحد طرح مشكلة المرأة العاملة على جدول أعمال هاته الدوائر اليومي، لترسخ قضية المرأة كأحد أولويات النضال المجتمعي ككل، من أجل بناء مجتمع تسوده العدالة والحرية والمساواة والقيم الإنسانية.

وهي الأهداف العليا السامية التي وحدت العاملات وأخرجت النساء مجددا إلى الشارع، احتجاجا على قساوة أوضاعهن المعاشة وهن يحملن “الخبز اليابس و باقات الورد”، كتعبير رمزي عن أهداف هاته الحركة الاحتجاجية، مطالبين بتخفيض ساعات العمل القانونية، ومنع تشغيل الأطفال في المؤسسات الصناعية، ومنح النساء بعض الحقوق المدنية والسياسية، وضمنها الحق في الاقتراع.

لقد شكلت حركة “الخبز و الورد”، الإرهاصات الأولى لميلاد حركة نسائية ستنتشر لاحقا فتعم العالم، خاصة أوروبا، والتي فرضت نفسها كإحدى قواعد الاستقرار المجتمعي من خلال الاعتراف بنصف المجتمع على مستوى الوجود المادي والإنساني، وهو ما أكده المؤتمر الدولي للنساء الاشتراكيات، في اجتماعه المنعقد ب”كوبنهاغن” باقتراح من الألمانية “كلارا زتكين”، التي تعد من أكبر رواد النضال من أجل تحرر المرأة وانعتاقها من العبودية المزدوجة، لكن من دون تحديد تاريخ.

تحول كبير أخرج نساء أوروبا إلى شوارع النمسا والدانمارك وألمانيا وسويسرا، حيث نزل أكثر من مليون شخص إلى الشوارع، للاحتجاج على سوء الأوضاع، وغياب العدالة الاجتماعية، لتتوحد تلك المطالب مع نظيرتها في الحركات العمالية والاشتراكية، و لتتوج سنة 1914 بانتزاع الحق في الاقتراع بعد تجمع نساء اشتراكيات في الثامن من مارس للمطالبة بنيل الحقوق المدنية، ليسجل هذا اليوم كأول احتفال فعلي بيوم 8 مارس، والذي اعتمد لاحقا مع صعود الثورة البلشفية، سنة 1917، كيوم عالمي للمرأة، بالتزامن مع خروج النساء في شوارع “سان بطرسبرغ” للمطالبة بالخبز وعودة الرجال من جبهات القتال، ليشكل هذا اليوم أحد فصول الثورة التي أطاحت بالقيصر، وليعلن “لينين” هذا التاريخ يوما رسميا للاحتفاء بالنساء، واعتباره “اليوم الأول للثورة الرسمية”.

ليتوج هذا المسار الطويل والشاق الذي خاضته نساء الكون، باعتماد الأمم المتحدة ومجموعة من المنظمات الدولية، يوم 8 مارس من سنة 1977، وللمرة الأولى، كيوم عالمي للمرأة، وليتحول هذا اليوم وهذا التاريخ إلى رمز وعلامة مشعة في تاريخ نضال المرأة من أجل حقها في الحياة و المساواة في الحقوق والواجبات، ومجابهة كل أشكال التمييز ضدها على الصعيد الكوني، وهو الموقف الذي عززته الأمم المتحدة ضمن فعاليات الاحتفاء بالذكرى المئوية الأولى لانطلاق يوم عيد المرأة العالمي، سنة 2010 من خلال اختيار شعار “مساواة في الحقوق ، تكافؤ الفرص: تقدم للجميع”، كعنوان مركزي لتخليد تلك الذكرى.

إن النضال الكوني الذي خاضته النساء، وما أفرزه من كسر طبقة الجليد الأولى في سماء معاناة المرأة كونيا، بفعل التضحيات الجسام التي قدمت لتحقيق هاته الأهداف، يقابل في العالم العربي وفي المغرب خصوصا، بخطوات نساء لا زالت تسير سير السلحفاة في مسار تحقيق التحرر الفعلي والحقيقي.

فما هي الاعتبارات التي تعوق دون تحقيق تحرر فعلي للمرأة العربية و المغربية؟

إن مقاربة هذا الموضوع الإشكالي يستفزنا لطرح مجموعة من الإشكالات المعيقة لحلقة التطور الطبيعية للمجتمع، وداخلها، تخلف البنى القائمة وهيمنة منطق “الأبوسية” على العلاقات القائمة، و خضوع المرأة نفسها لمنطق الدونية، والإيمان به قدرا محتوما لا سبيل للتحرر من سلطاته.

إذن فالمرأة المغربية تعيش أزمة فعلية قائمة في الواقع، تتجاوز الإطار النصي والدستوري، على اعتبار أن المغرب قطع خطوات هامة في سبيل تحقيق مساواة بين الرجل و المرأة، لم تتعد في بعدها العام الإطار القانوني، سواء من خلال مدونة الأسرة لسنة 2004، أو دستور 2011 الذي رام تحقيق المناصفة، خلال رحلة حضور المرأة في مجالات التدبير و المسؤوليات الجماعية والبرلمانية، وعلى صعيد إدارات ومؤسسات الدولة، إلا أن الإشكال يبقى قائما، سواء تعلق الأمر بتواجد المرأة داخل المنزل أو خارجه، من جهة كون المرأة تتعرض لاستغلالين، جنسي واقتصادي، مما يجعل معركتها مستمرة و بلا هوادة من أجل تحقيق مساواة فعلية اجتماعية واقتصادية وسياسية ونوعية، بما يحقق الحضور الفاعل داخل حقل الصراع، وليس الحضور المنفعل.

كما أن صعوبة المهمة تتأتى من المرأة ذاتها، وثقافتها التي تغذي التخلف والقصور والأمية بمفهومها الحقيقي، وليس اللغوي، بل أن المرأة قد تصبح في بعض الحالات عدوة لمصالحها، فتزكي بذلك دونيتها من خلال تبعية لصيقة للجسد، واستغلاله من أجل تحقيق أهداف براغماتية تكون في نهاية المطاف هي الضحية الأولى والأخيرة لهاته العملية كلها، أو من خلال سيادة منطق التحجر و التخلف و الشعوذة لدى أوساط عريضة من النساء المغربيات.

إن المطلوب هو تجاوز المقاربة القانونية في التعاطي مع هاته القضية إلى مقاربة اجتماعية منفتحة على أطرافها الأساسية، علما أن المرأة قد تستعمل كأداة سخرة لتمرير مخططات الرأسمال المالي والتجاري والصناعي من خلال توظيفها بسعر أدنى وأرخص ومن خارج القانون، لضمان إدارة سلسلة الإنتاج، وبالتالي لكسر النضالات العمالية ومعارك العمال المشروعة الاقتصادية منها والاجتماعية، مستغلين في ذلك عدم إدراكها بسقوطها في شرك الاستغلال المضاعف، وبقاءها أمة للوعي الشقي الذي يسكنها، والمغذى بالطبع من صعوبة الواقع والمعاناة من البطالة، لكن الأخطر هو فقدان الكرامة ضمن سوق الشغل الذي يحول المرأة إلى استغلالين طبقي وجنسي في آن واحد، كما أنها تعتبر وقودا للأزمات سواء في فترات السلم أو الحرب، مما يقتضي وعيا حقيقيا بمكامن خلل الضمير الحي – الغائب، أو المغيب بقوة الأمر الواقع المغذي للاستغلال والقهر الاجتماعي، والمستفيد من تخلف بنيات المجتمع الشاملة من أجل إدامة الاستعباد تحت دعاوى متعددة، لكن الجامع فيها هو الاستعباد الطبقي لكافة مكونات المجتمع، مما يجعل قضايا التحرر المجتمعي، معركة غير منفصلة بل مترابطة فيما بينها، فلا يمكن الحديث عن تحرر جنسي بدون تحرر اقتصادي ومجتمعي في ربط بالمفهوم الجدلي وليس الميكانيكي، اعتبارا لتعرض المرأة لقهرين في نفس الوقت، اقتصادي و جنسي، مما يجعل معركتها أعقد و أصعب.

وهو الموقف الذي حاول المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي اعتماده في مقاربته لتحرر المرأة المغربية عبر كسر ما أسماه بـ “السقف الزجاجي”، والمقصود به مجموع الحواجز الاجتماعية والنفسية التي تديم وضعية الجمود وتكريس دونية المرأة وتبعيتها للرجل، اعتمادا على مبدأ أن تحقيق التنمية لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال تجاوز منطق الإقصاء، وكل أشكال التمييز بحسب الجنس، وتجاوز منطق الإقصاء واعتبار المرأة ضمن عتبة المواطنة النشيطة، واستمرار أشكال متعددة من التمييز القائم على الجنس، خاصة في مجال العنف ضد النساء، حيث سجل سنة 2019 تعرض امرأة من أصل امرأتين للعنف على الأقل، و تزويج الفتيات دون سن 18، حيث سجل سنة 2018 منح 30 ألف رخصة زواج بقاصرات دون احتساب العدد غير المصرح به، كما أن التمثيلية النسائية داخل المؤسسات لا زالت تراوح مكانها، فهي لا تتجاوز 10 في المائة على صعيد مجلس المستشارين، و21 في المائة على مستوى مجلس النواب، فيما لم تتعد على صعيد الهيئات الترابية المنتخبة، نسبة 27 في المائة، وهو ما دفع المجلس إلى اعتبار أن هذه النسب “لا تترجم ما يتطلع إليه المغرب من مساواة و مناصفة، كما أقرها الفصل 19 من الدستور و الاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها المملكة”.

كل هاته المعطيات تؤثر بطبيعة الحال على الاستقلالية المالية للنساء وترهنهم بسطوة الرأسمال الذكوري، وتحولهم بالتالي إلى عبيد داخل الأسرة والمجتمع.

لكن المجلس في محاولته تقديم الحلول للوقائع التي قام بتوصيفها قدم اقتراحات قانونية، فهي على أهميتها تبقى غير كافية لأن شكل المقاربة المطلوب يتجاوز ذلك إلى مقاربة اجتماعية واقتصادية وسياسية وحتى أخلاقية في تحقيق قطيعة مع النمط التقليدي الممارس والمقيد لكل أشكال التحرر المجتمعي وضمنه تحرر المرأة، والقيام بثورة ثقافية داخل المجتمع، ولدى المرأة نفسها من أجل جعل قضيتها قضية بناء مجتمع مختلة أحد أركان قيامه.

إن المطلوب أكثر، هو الوعي أولا بعمق الاستغلال الذي تعيشه المرأة، وبضرورة تحررهن من هذا الاستغلال الرأسمالي، وأيضا من العبودية المزدوجة، المكرسة عبر الاضطهاد المنزلي والاجتماعي الذكوري والعبودية المأجورة، في إطار سيادة منطق الاضطهاد الباطرياركي والاستغلال الرأسمالي كمتلازمة قائمة في المجتمع، و هو ما يجعل المعركة في الأصل هي معركة نسائية، أي أن “تحرر النساء من صنع النساء” و ليس من صنع أي كان، فهن لن يحصلن في رحلة الانتظار إلا على “الفضلات” فقط، والإيمان بأن “لا تحرر للمجتمع بدون تحرر النساء”، وأن المدخل والأرضية لهذا التحرر، هو التحرر الاقتصادي، المرتبط بضمان حق المرأة في الشغل و إقرار المساواة التامة والكاملة في الأجر بين الجنسين و في كافة القطاعات، وحماية المرأة داخل مقرات العمل، وحماية الأمومة والدفاع عن كرامة المرأة وملاءمة التشريعات المحلية مع التشريعات الأممية وتلك الصادرة عن منظمة العمل الدولية، إضافة إلى صون كرامة المرأة في مختلف مواقع العمل وحمايتها من الإهانة والعنف والتحرشات الجنسية بأماكن العمل.

ويبقى تحرر المرأة داخل مؤسسات العمل مقرونا بتحررها كذلك من عبودية العمل المنزلي في إطار نمط تشاركي بين جميع مكونات الأسرة، وضمان كافة الحقوق المدنية والسياسية للنساء من خلال المزيد من تكييف النصوص الوطنية مع المواثيق والعهود الدولية والجهوية لحقوق الإنسان، المرتبطة بمجال حماية المرأة، والبروتوكول الاختياري الملحق بالعهد الدولي حول الحقوق المدنية والسياسية، والقضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة.

ويبقى النضال الأكبر المطروح هو في الوسط القروي والذي يتطلب معارك مزدوجة وصعبة من أجل تجاوز حالة التهميش الممارس في حق العالم القروي وتعزيز البنيات التحتية، وهو ما سيخفف من الأعباء الثقيلة التي تتحملها المرأة القروية، وضمان تدريس الفتاة القروية التي ترزح تحت نير الاضطهاد والجهل وقلة الحيلة الفكرية قبل المادية.

 

 

التعليقات مغلقة.