القراءة والشاشة

بقلم ميمون الغازي

لا شك أن الجيل الجديد قد أصبح يبتعد شيئا فشيئا عن الكتاب والقراءة، لٱعتقاده بأن هذا الفعل ممل يصيب بالضجر. 

وفي نفس الوقت أصبح متعلقا تعلقا مرضيا بشاشات الهواتف الذكية، وأجهزة اللابتوب والحاسوب، وذلك لما تمنحه هذه الأخيرة من شبكات تواصلية، برامج لعب، متعة،  وفيديوهات ترفيهية.

وقد خصصت هذا المقال بمناسبة اليوم العالمي للكتاب، للحديث عن مزايا القراءة وحسناتها، و تطرقت بالمقابل، إلى سلبيات الشاشة ومساوئها.

ليست الشاشة وحدها المصدر الوحيد للمتعة والترفيه، بل إن القراءة أيضاً يمكنها أن تحقق هاته المتعة، متعة مفيدة توسع من خلالها خيالك، تطور قدراتك الذهنية، وتفتح أمامك أبوابا وآفاقا جديدة. عوالم مجهولة لن تستطيع سبر أغوارها إلا بالقراءة، سرية بالكامل تتشكل من حروف وكلمات، تجعلك تعيد اكتشاف نفسك من جديد، وتعرف نفسك بنفسك، تجعلك تضع الكلمات على معان كنت تستشعرها ولا تعرف كيف تعبر عنها، ولن يتأتى لك ذلك إلا بالقراءة.

ستكتشف أن الشخص المجهول تمامًا الذي لم تقابله ولم تره من قبل، والذي ربما لن تراه أبدًا، ولن تقابله أبدًا، سوف يهمس في أذنك بالكلمات في صمت القراءة، ويعلمك أشياء كنت تجهلها بالمطلق، أشياء ما كنت لتعرفها أو تفهمها أبدا لو لم تقرأها في الكتب.

ستكتشف رغبتك في المغامرة، وأنت تقرأ مثلا كتاب “ألف ليلة و ليلة”. ستزور مدنا لم تعد موجودة على خريطة الواقع، ولن تستطيع زيارتها والتعرف عليها إلا من خلال الكتاب.

سوف تتعلم كذلك، كيف تترجم أحاسيسك إلى كلمات، الإحساس بالحب مثلا، أو بالغيرة التي يمكن أن تحرك الحب، ستتعرف على هذا الشعور، وستتمكن من التعبيرعنه من خلال قراءتك لروائع الأدب العالمي.

وحين تجرب هذا الشعور بنفسك وتعاني منه، وأنت تهيم بشخص لا يبادلك الحب، أو يغدق به على غيرك، حينها ستكتشف (ربما)،  الشاعر فيك أو السارد الذي يريد أن يعبر عنك، وستفعل هذا بتلك الكلمات التي قرأت في الكتب، لأنك أصبحت تتقن توظيفها للتعبير عن هذا الشعور، وأصبحت تستطيع أن تضع على كل شعور  كلمات مناسبة لوصفه. وستشعر بعد هذا بالرضى، وتزيل عن كاهلك همّا كان جاثما على صدرك كحجرة سيزيف، استطعت التخلص منها بالبوح والكتابة.

هذا سيجعلك أيضا تدرك أن ما قرأت عن هذا الشعور،  هو جزء من مجتمع تقتسم معه نفس القيم والأحاسيس، ويمكنك أنت أيضا أن تتقاسم هواجسك وتجاربك حين تمتلك أدوات التعبير. ستدرك أنك لست وحدك. هذه هي خصوصية القراءة، إنها نشاط منفرد يطل من شرفة ترى من خلالها العالم. حتى وأنت في عزلتك تقرأ، لن تكون وحيدا أبدا، فأنت في رحلة الخيال، دائم السفر والترحال، تجوب دروب عواصم العالم وقُراه، تجالس شخوصا تمنحك الحكمة والمعرفة، وتقتسم معك تجاربها في الحياة.

عكس الشاشة. الشاشة تبتلعك، القراءة تغذيك، القراءة تقويك، الشاشة تضعفك، الشاشة تفرغك والكتب تملؤك.  الشاشة سهلة، يتم أسرنا فيها، وجذب انتباهنا، لأنها منظمة بشكل جيد للغاية، هي صناعة تدر ملايير الأرباح على المشتغلين بها، سخرت لهذا الغرض، مهنتهم تقديم الوجبات الترفيهية السريعة، الخفيفة السهلة والمسلية، يفعلون ما تفعله المختبرات بالفئران،  تحقنهم بمحفزات عصبية صغيرة كل خمس ثوان، ثم عشر ثوان…

هكذا يجبرونك على التسمر أمام شاشتك. يسلبونك حريتك، ولا يسمحون لك بتطوير ذاتك وبناء شخصيتك.

يصنعون منك مدمنا على الشاشة، والشبكات الاجتماعية، لأنها بالنسبة لك، امتداد لشخصك ووجودك، في عوالم افتراضية اعتدت التواصل فيها مع أصدقائك المفترضين.

وقد يذهب الأمر بعيدا إلى حالة مرضية، حسب تقدير الباحثين المختصين في هذا المجال، إذ يتم إفراز مادة إسمها “الدوبامين” على مستوى الجهاز العصبي المركزي، حيث يتم تعديل الخلايا العصبية بهذه الزيادة في الدوبامين. خصوصا عند الأطفال، المراهقين والشباب، ويصبح بالتالي الارتباط بالهواتف والشاشات أقوى.

المتحكمون في صناعة هاته الشاشات الرقمية ومحتوياتها ، هم عمالقة الاقتصاد العالمي، رغبتهم الوحيدة أن يجعلوا منها أدوات استعباد واستهلاك، تدجن سلوكك، تراقبك، تتقفى أثر خطواتك وتحركاتك من داخل هذا العالم الذي أصبح قرية صغيرة، يتابعون نشاطاتك، يحسبون أنفاسك وإيماءاتك، ويقومون بتوجيه تفكيرك، يعلّبونك، ويتم الزج بك داخل القطيع.

عكس الأدب الذي يمنحك حريتك. القراءة تمنحك آفاقا شاسعة، تبني من خلالها شخصيتك القوية، تجعلك متفردا ومتميزا، تسمح لك باكتشاف الآخر، حتى وأنت وحيد تتقاسم مع الآخرين أحاسيسهم. يجعل منك الأدب إنسانا فريدا مختلفا، داخل مجتمع متعدد متحرر ومتجدد.

تساعدك القراءة اليومية على جلب مفردات أكثر ثراءً تثري بها قاموسك، وتحسن بها أسلوبك. تقوي المهارات النقدية والتحليلية لديك. وتجعلك تمتلك القدرة على تحليل التفاصيل الصغيرة، والتعبير عن رأيك في موضوع بطريقة واضحة وصريحة. كما تساعدك على التأمل والاسترخاء. يمكن لموضوع كتاب – النصوص الروحية مثلا-  أن يجلب لك راحة البال والسلام الداخلي الكبير.

وتشير العديد من الدراسات إلى أن التحفيز العقلي يمكن أن يبطئ من تطور مرض الزهايمر والخرف (وربما يوقفه تمامًا). لذا فالقراءة أفضل نشاط يحافظ على العقل ويمنعه من فقدان قدراته. وماهذا إلا غيض من فيض من مزايا القراءة.

أخيرا، لا يختلف إثنان على أن إعادة المراهقين والشباب إلى حضن الكتاب والقراءة، لم تعد مهمة سهلة، بل أصبحت معركة أخاف أن أقول (قبل خوضها) أنها محسومة لصالح الشاشة، إذا لم نجهز لها آليات وعتادا على جميع المستويات، منذ المراحل الأولى لنمو الطفل، حتى تكوين شخصيته واستقلاليته. ونسخر كل الطاقات والجهود أفرادا وجماعات، الى جانب وجوب اتخاذ تدابيرمن طرف المؤسسات الإعلامية والحكومية لوضع استراتيجية تعيد الكتاب والقراءة إلى الواجهة.

التعليقات مغلقة.