الفكر في مواجهة التفاهة، مؤسس الأنتروبولوجية نموذجا

محمد العوني

أصبحت أعين الفكر وواحات الإبداع بالمغرب في مواجهة مباشرة مع متاهات التفاهة وأشواكها الحديدية، ومع الغياهب المحبطة للامبالاة؛ الوضع أضحى لا يهدد الفكر والإبداع فقط، وإنما يستهدف المساهمة الحضارية للمغربيات والمغاربة إن لم يستهدف وجودهم ككل.

 

خطورة قتل ونفي الفكر والإبداع

من المؤكد أن طغيان التفاهة أصبح ظاهرة عالمية لدرجة أن الفيلسوف الكندي، “آلان دونو”، خصص لها كتابا بالغ الأهمية تحت عنوان “نظام التفاهة”.

إلا أن التعامل مع الظاهرة مغربيا ينبغي ان يكون بالنسبية الضرورية؛ إذ في البلدان الصناعية والتكنولوجية ـ وهي تعيش انتشار بعض التفاهة ـ هناك بنيات ومؤسسات للبحث العلمي وآليات لتطوير الفكر والتفكير ومنشآت لتجديد الإبداع وديناميات لازدهار وسائل التعبير؛ أما عندنا ـ و في المنطقتين العربية والإفريقية ككل ـ فالوضع من الخطورة بمكان وزمان.

لأن أولوية الثقافة والفنون والتربية والتعليم والفكر والبحث كروافع للتقدم والنمو لم تترسخ بعد؛ ولم ننتقل إلى مستوى يحمينا من عواصف التتفيه، وموجات الاستهلاكوية أو الاستهلاك من أجل الاستهلاك، ومن اتجاه الانحدار بالإنسانية وقيمها… فيما أضحت التنميطات السلبية للمجتمعات جزءا من الحروب الدائرة في العالم والتي لم تعد ـ العديد منهاـ تخاض بأدوات عسكرية.

في الوقت الذي استقال أو ابتعد أو انزوى الكثير ممن كانوا في عتبات التفكير، دون الحديث عمن باعوا أرواحهم و كلماتهم الأولى بالرخيص ورهنوا القيم التي خانوا بما ذهنوا أو ما ذهن لهم، يوجد بعض الفكر الصامد، والصمود الفكري في فوهة مواجهة التفاهة من أجل مبادئ لم تبدل تبديلا.

مبدعون وباحثون و مفكرون شكلوا ويشكلون جزء من حضارتنا التي تحولت هي بنفسها إلى جزء من الحضارة الإنسانية تعرض الكثير منهم بالأمس للقتل المعنوي والمحو الثقافي، وعوض ان نكثر من مبادرات إحياء ما يمكن إحياؤه من تراثهم، تضيف لهم الدولة والمجتمع في المغرب اليوم ضحايا جدد من الأحياء ذوي العطاء المستمر والإبداع المتقد بطرق الخنق والحصار و التهميش والعزل…، ومن ثمة أمست المبادرات النادرة التي تقاوم ثقافة القتل والمحو عملا وطنيا ومواطنا يستحق أكثر من تقدير…

في معرض الكتاب الأخير لم يكن كافيا أن يأتي بضع عشرات للاطلاع في ركن من حيز رواق صغير على الكتاب الجديد للمفكر “عبد الله حمودي” الحامل لعنوان “ما قبل الحداثة ـ اجتهادات في تصور علوم اجتماعية عربية”، وللحصول على توقيع الكاتب الذي لن أبالغ إن أسميته “مؤسس الأنتروبولوجية في المغرب”؛ بينما تحتاج الساحة الثقافية والجامعية لحضور المئات لتتبع ذاك الجديد، بل كل الثقافة والفكر في المغرب يحتاج ذلك…

فالأمر يتعلق بمفكر وبقامة علمية نادرة، والحال أن من يستحق في المغرب صفة مفكر قليلون وقليلات؛ إذ يعد المفكرون المغاربة خلال هذا العصر ـ حتى بإحصاء من رحلوا عن الحياة ـ، يعدون على رؤوس أصابع اليدين، وهناك من يعدهم على رؤوس أصابع اليد الواحدة…، والبروفيسور “عبد الله حمودي” ليس مجرد كاتب أومؤلف، بل هو حامل مشروع فكري وعلمي قوامه عقود من البحث الجدي والدراسة المتأنية والمتخصصة.

حينما حضر البروفيسور “حمودي” إلى معرض الكتاب كان يقاوم الآلام التي ألمت به نتيجة حالة مرضية، إنما التزامه ـ حتى مع من لا يلتزم ـ جعله يتحمل ذلك في صمت وصبر…، وبما أنه يعرف “خروب بلادنا” جيدا وحالة الثقافة الملتبسة والمتلبسة بتخليات السياسة واختلالاتها، فهو لم يعر كثير اهتمام ولا حتى قليله لشروط تقديم كتابه الجديد وتوقيعه.

وعندما لا يقوم الآخرون بواجباتهم لا يتخذ من ذلك مبررا للتخلي عن”واجباته”، إذ كثيرا ما اعتبر التواصل مع الجمهور وضمنهم الباحثين ومناقشتهم أفكاره وأفكارهم واجبا علميا، وذلك نابع لديه من تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة كما يقول “غرامشي”…

خارج المعرض وعبر وسائل الإعلام ووسائط التواصل كان هناك اهتمام بالكتاب الجديد للمفكر “حمودي”، إنما في مستوى يؤكد بأن التفاهة طغت والضحالة انتشرت… حتى بالمقارنة مع الاستقبال المتميز الذي حظيت به مؤلفاته السابقة؛ فعوض تقديم الكتب وقراءتها و مناقشة أفكار الكبار غرق المغرب في تهافت صغار الصغار وانتفاخهم الذي بانت له حتى في السماء علامات…، وبلغنا إلى سقوط “آخر جدران الحياء”، كما قال “نزار قباني”.

عمل شاق وعلم دؤوب من أجل الانتربولوجية كفكر وتخصص

أورد الصحافي “وائل بورشاشن” ـ عبر جريدة هسبريس ـ تقريرا حول “تخصيص شعبة مستقلة لتدريس الأنثروبولوجيا في سلك الإجازة، من المرتقب أن تنطلق مع الدخول الجامعي الجديد بجامعة ابن طفيل بالقنيطرة، وذلك لأول مرة في تاريخ الجامعة المغربية”؛ نشرالتقرير يوم 25 غشت 2022.

وبقدر ما يبرز هذا الخبر بأن الصمود في مقاومة التفاهة يؤتي لا محالة أكله، بقدر ما انضافت لدي إلى مرارة ما وقع بمعرض الكتاب وما بعده مرارة عدم الإشارة للانتربولوجي “عبد الله حمودي” في بلاغ “جامعة بن طفيل” ولو تلميحا إلى عمله التأسيسي في هذا المجال.

للأنتروبولوجيا والإثنوغرافية تاريخ طويل مرتبط بالاستعمار في المنطقة المغاربية والعربية ـ وسبق للبروفيسور “حمودي” أن وقف عند ذلك ـ حيث مارسها متخصصون و إداريون وباحثون أجانب بالفرنسية والانجليزية وبلغات أخرى، وتزخر الخزانة بالمعارف الناجمة عنها، عبر مجلدات ودوريات يصعب الإحاطة بها كلها.

إنما يعتبر المفكر “حمودي” مؤسسا للانتروبوبولوجية في المغرب والمنطقة، لأنه اشتغل طويلا وحصل على الأهم في منجز هذا العلم والمعرفة وركائزهما الفلسفية؛ إذ أنجز مشروعا قابلا للتطوير، بعد أن وضع أسسا جديدة للأنتروبولوجيا باللغة العربية كمادة، بل مواد لا يمكن لأي باحث جاد في المجال أن يتجاهلها؛ لأنها تتضمن الأسس النظرية والمنهجية الجديدة لبناء الأنتروبولوجيا المغاربية باللغة العربية في أفق علوم اجتماعية متجددة.

وقراءة المنتوج العلمي لحمودي تبرز أن مشروعه يتعدى الانتروبولوجية إلى التفكير في الأسس الابستمولوجية والمعرفية بصفة عامة، بفضل جهده البارز في فلسفة المعرفة؛ إذ وضع للمجال المعرفي الذي يشتغل عليه أسسا إبستيمية ومنهجية ونظرية، بحيث أن جديده هو بلورته للبنات دقيقة لممارسة التنظير للاثنوغرافية و الانتروبولوجية.

ولا تسكن كتاباته قصرا من عاج بل اعتبر دائما أنه لا بد للمعرفة في هذه الميادين من الخوض في الفكر العام، ويؤكد ذلك مساهمته دون دعاية ولا ادعاء في الثقافة والسياسة، ومواقفه فيما يخص انشغالات مجتمعات المنطقة دون التنازل عن صرامته المنهجية التي تتحاشى الخلط بين الأشياء… مما يثري المخيال الجماعي، وهو ما لا يتم الانتباه له إلا قليلا، أو بالأحرى نادرا…

في الحاجة لإدراك المشروع

لايمكنني أن أحيط بكل ما أصدره البروفسيور “حمودي”، إنما أذكر أن مؤلفاته ذائعة الصيت لا يمكن لأي متتبع حصيف أن يتنكر لطابعها التأسيسي.

فكتابه “الضحية وأقنعتها بحث في الذبيحة والمسخرة بالمغارب” بصمة متميزة في الدراسة الأنتروبولوجية مما جعله مصدرا لا محيد عنه لفهم عدة جوانب ثقافية ورمزية وسياسية ودينية في المنطقة؛ أما مؤلفه “الشيخ و المريد، النسق الثقافي للسلطة في المجتمعات العربية الحديثة ” فقد بلغ طبعته الخامسة و هو مشهور بمرجعيته والأطروحة التي يقدمها، لا سيما في عوامل بناء السلطوية بمنطقتنا، وتفاعلا مع الاهتمام الذي أثاره فقد تلاه ب”مقالة في النقد والتأويل”…

وترجم كتاب “حكاية حج، موسم في مكة” لأزيد من 12 لغة ليس لجديته وأصالته فقط، وإنما لأنه تجديدا في البحث واجتهادا في المنهجية والربط بين النظرية والتجربة الميدانية مما أفرز نظرية “المسافة والتحليل” التي طورها في مؤلف آخر.

دون أن ننسى انكبابه على “الرهان الثقافي” وتحدي القطائع المطلوبة عن طريق البحث وتأطير العناصر الثقافية بسياقاتها السياسية والاقتصادية.

وسبق أن أشرت إلى أن آخر ماصدر له مرتبط بالاجتهاد لبناء تصور متجدد للعلوم الاجتماعية في المنطقة المغاربية والعربية وإثارة النقاش حول هاته القضية التي حظيت بالعديد من أبحاثه والتي جادلها مع الحداثة و ما قبلها.

ويشكل كتابه “الحداثة والهوية، سياسة الخطاب والحكم المعرفي حول الدين واللغة” امتدادا لانشغالات مشروع المفكر حمودي، ربما لم يحظ بعد بما يليق به من نقاش.

وتحتاج الإحاطة بمختلف مقومات مشروع الأستاذ والمفكر “عبد الله حمودي” لفريق متكامل من الباحثين لإدراكه و سبر أغوار كتبه و العديد من دراساته ومقالاته وحواراته.

وبالعودة لإحداث شعبة وإجازة للانتربولوجية بالقنيطرة، فأتوقع أنها ستدخل السرور على البروفيسور “حمودي” حامل المشروع الذي أشرت لبعض معالمه فقط.

وتثير الإشارة ـ في تصريح ورد ضمن التقرير المشار إليه ـ لتجربة التدريس الفرنسية للانتروبولوجيا احتمال التبعية الفرنكوفونية المعتادة لدى نخبنا؛ وقد خص التصريح بالذكر “ليفي ستراوس”، وهو ذي مكانة في التخصص لا تلغي الانتقادات الكثيرة الموجهة له؛ أما “غوديليي” فهو عموما لم يأت بأي جديد في المجال…

ومع ذلك سننتظر مع الباحثين المتخصصين برامج ومواد ومنهجيات الإجازة والشعبة لتقييمها لعلها تكون انطلاقة لاهتمام جماعي بهذا العلم وإعادة الاعتبار له.

التعليقات مغلقة.