اليوم الوطني للمقاومة وسيرة الشهيد محمد الزرقطوني … تأملات في قيمة الشهادة…

حميدة الجازي / القيمة على فضاء الذاكرة التاريخية للمقاومة والتحرير بطنجة

“اليوم الوطني للمقاومة”، ذكرى تختزل الكثير من التضحيات الجسام التي قدمها الشعب المغربي وفي طليعته، نساء ورجال الحركة الوطنية، وأسرة المقاومة وجيش التحرير، من طنجة إلى الكويرة، تحت قيادة العرش العلوي الأبي في سبيل نيل الحرية والاستقلال والتحرر من رجس الاستعمار الذي جثم على هذا الوطن الأبي.

 

 

إننا اليوم ونحن نخلد الذكرى 69 لليوم الوطني للمقاومة، الذي يقترن بذكرى استشهاد البطل محمد الزرقطوني، والذكرى 67 للوقفة التاريخية لبطل التحرير والاستقلال والمقاوم الأول جلالة المغفور له الملك محمد الخامس طيب الله ثراه على قبر الشهيد، نستحضر مجموعة من القيم التي آمن بها شهداء الوطن وفي طليعتهم الشهيد محمد الزرقطوني.

إن الباحث والمنقب عن رموز المقاومة وجيش التحرير، لا يمكن إلا أن يقف وقفة احترام وإجلال وتقدير لشخصية الشهيد محمد الزرقطوني، هذا البطل الذي شكل استثناء في كل شيء، فكان الرقم الصعب الذي أربك حسابات المستعمر الفرنسي في حياته واستشهاده، بل وحتى في المرحلة التي أعقبت ذلك.

سنتعرف في هذه السطور على بعض المحطات التي طبعت حياة الشهيد محمد الزرقطوني الإنسان والمقاوم البطل والوطني المسكون بحب الوطن و المهووس بالحرية…

رأى الشهيد محمد الزرقطوني النور سنة 1925 بدرب “السوينية” بالمدينة القديمة بالدار البيضاء حيث كان الابن البكر لأسرة تتكون منه ومن 3 أخوات، والده هو مقدم “الزاوية الحمدوشية” التي نهل منها المبادئ الأولى للقراءة والكتابة، ليلتحق بعدها بالمدرسة “العبدلاوية” للتعليم الحديث والتي تشبع فيها بقيم الوطنية وحب الوطن.

لقي الشهيد اهتماما كبيرا من كل أفراد أسرته بدون استثناء، وخاصة من والدته التي كانت تتسم بطيبة لا مثيل لها، ولقي نفس المعاملة من إخوته وكان يرى فيه والده الخلف له، في تدبير شؤون الزاوية….

عند بلوغه سن السادسة عشر من عمره اهتم والده بتعليمه طبقا لما كان سائدا في تلك الفترة، حيث الطابع الديني كان المرجع الأساسي للأسر المغربية المحافظة، فأدخله إلى الكتاب القرآني لحفظ القرآن الكريم وأصول الدين…؛ لكن طموحه دفعه لكي يتمكن من المعرفة في حدها الأقصى لما كانت له من قدرة الاستيعاب ولذكائه الفطري وقوة رغبته في الوصول بمجهوده إلى اعلى درجات المعرفة. 

ولم تقتصر معرفته على لغة الضاد بل سعى أن يكون له إلمام باللغة الفرنسية لغة أعدائه، وكان قصده من ذلك استغلال هذه اللغة للتواصل مع خصومه….

تزوج الشهيد محمد الزرقطوني من المرحومة لالة هبة بنت إبراهيم الركراكي التي كانت سندا وعونا له..، كانت فرحة الشهيد كبيرة منذ أن أخبرته زوجته بحملها بمولودته البكر التي اختار لها اسم بديعة، لكن الموت خطفها من بين أحضانه وأحضان أمها وعمرها لا يتعدى السنتين.

شكلت هذه الوفاة صدمة كبيرة للشهيد وزوجته وهما في بداية حياتهما الأسرية، كان الألم موجعا، ليعود الأمل إلى قلبيهما حيث ازدان فراشهما بمولود ذكر، أطلق عليه الشهيد اسم “عبد الكريم”، وهي التسمية التي ارتبطت بالمجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي الذي تأثر الشهيد الزرقطوني بمساره وبطولاته…

حدث أدخل الكثير من الفرح والسرور على قلب الزرقطوني الذي سيفجع مجددا بوفاة زوجته المرحومة “للا هبة” أثناء المخاض خلال شهر أبريل 1951، رغم ذلك ظل الزرقطوني صامدا، ومن أجل التفرغ لعمله النضالي اتجه إلى اختيار الزوجة الثانية السيدة “السعدية العلمي” سنة 1952، وهي التي حرصت على ملازمة الشهيد من اليوم الأول الذي ارتبطت به وإلى تاريخ استشهاده فجر يوم 18 يونيو 1954.

رجوعا إلى بداية الزرقطوني مع العمل النضالي، سنعود بقرائنا الأعزاء إلى سنة 1947 ، عقب أحداث الدار البيضاء المؤلمة، حين قرر الزرقطوني على غرار رفاقه القيام برد مماثل يلجم الغطرسة الاستعمارية الفرنسية فكان الشعار : “العنف لا يواجه إلا بالعنف” فأسس حينها سنة 1948 خلية “القانون المحروق” بالبيضاء إلى جانب رفاق الكفاح، وحينها انطلقت الشرارة الأولى لعمله النضالي…

إن العمل ضمن الخلايا السرية ليس من السهولة بمكان، فقد فرض هذا الأمر نمط عيش مختلف على الزرقطوني وأسرته، إذ اضطر إلى تغيير سكنه من المدينة القديمة إلى درب السلطان، كما غير عمله من النجارة إلى الأثواب ثم إلى التجارة في الخشب.

كما جاء في مؤلف “محمد الزرقطوني قيم إنسانية صنعت فعل الشهادة”، لمؤلفه أحمد الابريزي، فمحمد الزرقطوني كان شخصية فريدة من نوعها، سواء في العمل النضالي، أو السياسي، أو حتى الرياضي، حيث حرص على إنشاء فرقة “الميلودية البيضاوية” من لاعبين في حي “بوطويل” الشعبي الذي اتخذه مقرا لكافة أنشطته المختلفة، حيث كان هدفه حينها إعداد نخبة من المناضلين الذين التحقوا فيما بعد بالركب الوطني النضالي، إذ كانت أفكاره مبنية على تجارب راكمها رغم حداثة سنه.

وقد تجلى فكر الزرقطوني ووعيه النضالي بعد نفي السلطات الاستعمارية الفرنسية لجلالة السلطان المغفور له محمد بن يوسف وأسرته الكريمة في 20 غشت 1953 تزامنا مع عيد الأضحى المباركـ حينما قررت خلية الزرقطوني الرد على هذا العمل المشين فجاءت عملية مارشي سنترال، أي السوق المركزي التي تزامنت مع أعياد الميلاد المسيحية، وتعددت بعدها العمليات وتفرعت الخلية إلى خلايا كثيرة وتنظيمات انتشرت في مختلف المدن المغربية ليصبح بعدها اسم الزرقطوني على رأس قائمة المطلوبين لدى البوليس الفرنسي، فألقي عليه القبض يوم الجمعة 18 يونيو 1954 حيث قال قولته الشهيرة،” مثلما أخرجتم النازية وهتلر من فرنسا ، سنخرجكم من أرض المغرب، ومحمد بن يوسف سيعود إلى الوطن، والمغاربة. طال الزمن أو قصر، سينالون استقلالهم”، وأسلم الروح لباريها بعد ابتلاعه لحبة السم التي يجب أن يخصص لها مقال منفصل كطريقة استثنائية في الكفاح والتضحية بالنفس للحفاظ على أسرار المقاومة… 

لقد أدرك الزرقطوني أن هذا العمل يدخل لا محالة في الوسائل المشروعة دفاعا عن الوطن، بل وعمل بمعية رفاقه -كما جاء على لسان ابنه الأستاذ عبد الكريم الزرقطوني، رئيس مؤسسة الزرقطوني للأبحاث والدراسات في حوار دار بيني وبينه- أن الزرقطوني كان يتباحث مع رفاقه عن مدى سمية حبة السم وتأثيرها وعملوا على التأكد من فاعليتها فلا مجال للخطأ في هكذا أمور… فلله ذر قوم عملوا على تطوير وسيلة استشهادهم…….

إن تضحيات الشهيد محمد الزرقطوني لم تنقطع باستشهاده، بل امتدت لعائلته، التي تعرضت لزلزال عنيف بفقدانها للأب والمعيل والسند، والدته لم تنقطع دموعها عليه حتى عندما كانت تحتضر، أعقبها الوالد فأخت الشهيد الصغرى مليكة التي كانت تربطها علاقة خاصة بأخيها محمد الزرقطوني، ثم جاء الدور على شقيقاته زهرة وخديجة، كما جاء على لسان “الأستاذ احمد الابريزي” في المؤلف السابق الذكر.

غير أن العمل النضالي للأسرة استمر مع الابن البكر عبد الكريم الذي ضل محافظا على أصالة الأسرة وتولى الإشراف على مؤسسة محمد الزرقطوني للثقافة والأبحاث في محاولة مستمرة للتعريف بتراث المقاومة وتجاربها.

ولعل التكريم الذي حظي به الشهيد بعد سنتين من استشهاده من طرف أب الأمة جلالة المغفور له الملك محمد الخامس طيب الله ثراه كان خير دليل على عظمة ما قدم الزرقطوني للوطن، فبعد عودة جلالة المغفور له محمد الخامس طيب الله ثراه من المنفى يوم 18 يونيو 1956 وقف على قبر الشهيد معلنا هذا اليوم العظيم يوما وطنيا للمقاومة للتعريف بشهدائنا الأبرار وبملاحمهم البطولية  حث قال طيب الله ثراه” أيها البطل الشهيد ، شاء الله عز وجل أن نقف اليوم على قبرك لا لنبكي شبابك الغالي، فان أمثالك لا تقام ذكراهم بالبكاء ولا لنجدد التعزية لأهلك وذويك،  فان فقدانك أعظم شرف أصبحت تعتز به أسرتك ، ولكننا جئنا لنتذكر المثل العليا التي بذلت في سبيلها روحك الطاهرة، لقد أبت عليك غيرتك الوطنية وتفانيك في حب وطنك وملكك إلا أن تسترخص الموت الزؤام فأقبلت وعلم المقاومة خفاق في يمينك مطمئن النفس إلى المصير  المحتوم تردد بين الفينة والأخرى، يا نفس الجنة وهكذا لبى القدر دعائك ، فلم يمهلك عن بلوغ مثواك الخالد، ولئن كان إخوانك المواطنون من قبل يحيون ذكراك تحت ظلام الرعب الكثيف فإنهم اليوم هبوا وعلى رأسهم ملكهم يتناجون بذكرى بطولتك الخالدة التي رسمت الذكرى في رائعة النهار، يتناجون بذكرى بطولتك الخالدة التي رسمت صورتك في كل قلب، حركت باسمك كل لسان وفرضت على التاريخ أن يضيف إلى سجل الخالدين من أبنائه أن الشعب مفطور على الاعتراف بالجميل ولن ينسى عمل أولئك الذين كان لهم فضل المقاومة سواء بالسلاح أو اللسان أو المال وانه لجدير بذكرى المكافحين من أمثال الزرقطوني وعلال أن يخصص لهما يوم يكون احد إيمانا المشهودة لتكون ذكرى لائقة بنضالهم المجيد ناطقة بعظمة كفاحهم وهذا ما عقدنا عليه العزم بحول الله ……….)

وواصل جلالته الإشادة بالدور الذي اضطلعت به حركة المقاومة والفداء وتطلع جلالته لأخبارها وبطولاتها قائلا: 

“لقد كنا في منفانا، شهد الله نتلهف شوقا إلى أخبار مقاومة أبطالنا، فكانت هي أنيستنا في نهارنا وسمرنا في ليلنا، وكان يقيننا راسخا في تلك المقاومة وقد كنا أول من حمل مشعلها، لتستفحل يوما بعد يوم حتى تستأصل جذور الباطل، وها نحن اليوم نستظل بدوحة الحرية التي غرسناها وسقاها فدائيون بزكي دمائهم……..”.

لقد دأبت المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير كل سنة على تخليد اليوم الوطني للمقاومة والاحتفاء بسيرة الشهيد محمد الزرقطوني بما يليق بهذه الذكرى من برامج متنوعة تضم ندوات ومحاضرات وزيارات لفضاءات الذاكرة التاريخية للمقاومة والتحرير الممتدة على ربوع بلادنا، وأنشطة تربوية متنوعة فهي مناسبة لزرع القيم الإيجابية وقيم الوطنية والمواطنة في نفوس ناشئتنا وتحفيزهم على الانخراط الفعال في حركية المجتمع ونمائه وإعلاء صروحه والمساهمة في التنمية الشاملة والدامجة له والذود عنه وعن وحدته الترابية.

المراجع :

-1-  كلمة المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير لسنة 2023.

 2-  أحمد الايبريزي من مؤلف ” محمد الزرقطوني  قيم إنسانية صنعت فعل الشهادة ”  الصادر عن دار النشر المغربية لسنة 2015 في طبعته الأولى .

3- مكالمة هاتفية مع ابن الشهيد مجحمد الزرقطوني ، عبد الكريم الزرقطوني رئيس مؤسسة الزرقطوني للأبحاث والدراسات

التعليقات مغلقة.