أول جريدة إلكترونية مغربية تتجدد على مدار الساعة

ستة عقود من عمل البرلمان المغربي بعيون أرشيف المغرب

عبد السلام انويكًة

بشراكة مع مؤسسة أرشيف المغرب، وفي ذكراه الستين، احتضن البرلمان المغربي يوم سابع عشر يناير الجاري معرضا أثثته عشرات الصور والوثائق المؤرخة لذاكرة المؤسسة بمجلسيها منذ قيام أول برلمان قبل ستة عقود.

 

 

وقد أبرز المعرض محطات العمل البرلماني التي واكبت ما شهده المغرب الحديث منذ استقلاله من تطور مؤسساتي وديمقراطي ومجتمعي، بدأ من إحداث مجلس وطني استشاري كأول نواة برلمانية بمبادرة من السلطان محمد الخامس منذ الاستقلال، مرورا بالمصادقة على أول دستور وإجراء انتخابات انبثق عنها أول برلمان بمجلسين مجلس النواب ومجلس المستشارين سنة ألف وتسعمائة وثلاثة وستين.

هكذا كان مجلس النواب على موعد مع مساحة أرشيف بقدر كبير من الرمزية الوطنية، وقد استحضرت هذه الوثيقة زمن هذه المؤسسة ومحطاتها البارزة، من خلال ما تم عرضه من وثائق وصور لمواعيد تشريعية وقضايا طبعت عمل المؤسسة على امتداد ستين سنة.

ستة عقود من عمل البرلمان المغربي بعيون أرشيف المغرب (2)
ستة عقود من عمل البرلمان المغربي بعيون أرشيف المغرب (2)

وهو ما أضفى حلة وروحا خاصة على ذكراها الستين، التي قال عنها رئيس قسم التواصل والنشر بمؤسسة “أرشيف المغرب”، الأستاذ خالد عيش، في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء، أن الاحتفاء بقيام أول برلمان منتخب في المغرب هو مناسبة بدلالة رمزية كبيرة في ذاكرة المغاربة وتاريخهم، من أجل إرساء قواعد الممارسة الديمقراطية.

وأكد أن المعرض يلقي الضوء على تلك الذاكرة وعلى ذلك التاريخ من خلال صور ترسم مسار تطور العمل البرلماني على امتداد الولايات التشريعية، ومن خلال وثائق شاهدة على تطور وظائف وآليات اشتغال المؤسسة البرلمانية.

هكذا احتفى البرلمان المغربي بذكراه الستين بشراكة مع مؤسسة أرشيف المغرب، من خلال معرض مواز متميز، بقدر ما كان عليه من رمزية وأثاث توثيقي جاذب وقيمة مضافة رافعة للموعد، بقدر ما استحضر  ستة عقود من مسار عمل مؤسسة البرلمان بعيون أرشيف المغرب.

وفضلا عما كان لافتا من أرشيف مؤثث للذكرى، شهدت رحاب المؤسسة ندوة وطنية توزع نقاشها على ما تراكم من تطور دستوري لبنية ووظائف البرلمان، وعلى ما هنالك من دعامات وتحديات وآفاق.

حيث تناول باحثون مختصون عبر جلستين، نظام الثنائية البرلمانية بالمغرب وعلاقة السلطة التشريعية بالتنفيذية، فضلا عن تقييم السياسات العمومية وكذا علاقة مؤسسة البرلمان بالممارسة الديمقراطية وثقافة الانفتاح وما هو مطروح من تحديات.

وفي هذا الاطار اعتبر رئيس المجلس الدستوري السابق الأستاذ محمد أشركي في مداخلة له، أن نظام الثنائية البرلمانية بالمغرب هو بتفرد يتيح تمثيلية أوسع للمجتمع، مشيرا إلى أن دستور البلاد ينص على تمثيل الجهات والجماعات الترابية والغرف المهنية ومنظمات المشغلين وممثلي المأجورين..، كما هو مشاع في عديد مجالس الشيوخ.

وسجل كون هذه التمثيلية “نادرة” وتوجد فقط في دستور دولتي إيرلندا وسلوفينيا، إذ تمثَّل الجامعات في مجلس الشيوخ الإيرلندي، فيما يضم مجلس سلوفينيا الوطني 40 عضوا يمثلون المشغلين والمأجورين وجماعات الأنشطة الاقتصادية وغير الاقتصادية، مبرزا أن هذا الأخير يبقى قريبا من مجلس المستشارين.

وأوضح الى أن نظام الثنائية البرلمانية بالمغرب”متوازن” داخليا وخارجيا وهو ما تعكسه تركيبة مجلس المستشارين، إذ أن ثلاثة أخماس من أعضائه ينتخبون من ممثلي مجالس الجهات والجماعات الترابية الأخرى، والثلثين الباقين لممثلي الغرف المهنية ومنظمات المشغلين، وهو ما “يساهم في تعزيز ممارسة البرلمان لوظائفه وتعزيز جودة الممارسة الديمقراطية”.

وعن جامعة محمد الخامس بالرباط توجه أستاذ القانون العام، عبد الحفيظ أدمينو، بالعناية في مداخلته، لإبراز سمات تطور العلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، على مستوى اقتسام سلطة المبادرة التشريعية الذي أنتجته الممارسة السياسية المغربية.

وأشار إلى أن القواعد الدستورية أفرزت إقرارَ نوع من التلازم وتقوية الارتباط بين الأغلبية الحكومية والبرلمانية، كما أن الدساتير توجهت نحو تقوية المأسسة بين الحكومة والبرلمان “لا سيما من خلال الوزارة المكلفة بالعلاقات مع البرلمان والتي يرتكز دورها على تسهيل الحوار بين الجهازين التنفيذي والتشريعي”.

وأوضح أن هذه الوزارة لعبت دورا مهما في تمثيل الحكومة في البرلمان وفي التقريب بينهما، معتبرا أنها “وظيفته تتأثر بأغلبية مريحة من عدمها، على اعتبار أن الوزير المكلف بالعلاقات مع البرلمان يكون في أوضاع صعبة عندما لا يتحقق الدمج الوظيفي والعضوي بين الأغلبية البرلمانية والأغلبية الحكومية”.

وحول تقييم السياسات العمومية ونجاعة الفعل العمومي، تناول أستاذ العلوم السياسية محمد الطوزي، المفاهيم المؤسسة للتقييم مشددا على تحديد ما هناك من فرق بين التقويم والمراقبة والمساءلة والمحاسبة.

وأشار إلى أنه بالعودة للأدبيات المُؤسسة لمفهوم التقييم، يمكن القول أن تقرير الخمسينية أرّخ لهذا المفهوم و”إن لم يستخدم مناهج التقييم (..) لكنه كان شفافا”، مضيفا أنه “طرح أفقا لتطوير السياسات العمومية في المغرب”.

وقد اعتبر أن معيقات التقييم باعتبارها “عملية للتتبع”، ترتبط بجوانب ثقافية ذات صلة بتحديد المسؤوليات في الثقافة السياسية، مبرزا أنه “لا يُؤسّسُ للتقويم كممارسة تواكب السياسات العمومية إلا إذا كان هناك مجال للفاعل السياسي والترابي يقبل المجازفة/مواجهة المخاطر”، وهو “ما شخصه النموذج التنموي الجديد فيما يتعلق بنجاعة السياسات العمومية”، مؤكدا على أهمية جودة المعطيات وتحيينها من أجل متابعة وتقويم السياسات العمومية من “المحطة صفر”، لبلوغ نتائج ذات جودة.

أما الأستاذ جواد النوحي فقد أورد في مداخلة له بعنوان “السياسات العامة والسياسات العمومية”، أن وظيفة تقييم السياسات العمومية تجد “زخما نظريا كبيرا”، وعليه فإن “ممارسة وظيفة التقييم تحتاج لتبني نمط برلماني مغربي يعتمده البرلمان”، مستحضرا ما هناك من تحديات تواجه البرلمان فيما يتعلق بأثر آليات الرقابة على فعل صناعة السياسات العمومية، “لكي يصبح البرلمان المغربي المنتج والمقيم الفعلي والمتميز للسياسات العمومية، على اعتبار أن هذه الوظيفة لم تعد حصرا في ضوء الدستور على المؤسسة التشريعية فقط، بل انفتحت على فاعلين آخرين مثل هيئات الحكامة، مما يطرح سؤال “تميز البرلمان”.

وأشار إلى أنه من الضروري أن تكون تقارير البرلمان ذات جاذبية، في ضوء زخم تقارير العديد من الفاعلين في مجال تقييم السياسات العمومية، مؤكدا على أهمية مؤشر الفعالية في التقييم والذي يرتكز على “إنجاز السياسة العمومية في الجدول الزمني المحدد”.

وضمن فقرات ندوة الذكرى الستين لمؤسسة البرلمان، أكد الأستاذ النوحي على ضرورة تجاوز الالتباس الذي يطرحه التقييم في تقاربه مع مفهوم المراقبة، داعيا إلى ضرورة فصل التقييم عن التشريع والمراقبة في النظام الداخلي لمجلسي البرلمان، موضحا أن برلمانات اليوم “هي برلمانات مأسسة تقييم السياسات العمومية”.

وحول تحديات الممارسة البرلمانية وآفاق تطويرها وتجويدها ضمن محور ثان لندوة الذكرى الستون للبرلمان، توقفت مداخلات عدد من الباحثين الأكاديميين على جملة قضايا تهم تعزيز الممارسة البرلمانية وآليات وآفاق انفتاح المؤسسة التشريعية على محيطها، فضلا عما هناك من تحديات جديدة تخص الشأن البرلماني ومن اشكاليات تواجهها الديمقراطية التمثيلية، مستحضرين مسار وزمن المؤسسة البرلمانية المغربية بعد 60 عاما على إحداثها، من خلال المستويات التشريعية والرقابية والتقييمية والدبلوماسية، وكذا والعقبات التي تواجهها الديمقراطية التمثيلية وموقع المؤسسة التشريعية على المستوى الدولي.

سياق أشار فيه الأستاذ والوزير السابق عبد الله ساعف، الى أن موقع المؤسسة البرلمانية تعزز مع الزمن سواء من حيث الصلاحيات التي خصها بها الدستور والتطور في اتجاه تعزيز وتقوية أدوارها في مجال التشريع والمراقبة الديمقراطية والتقييم، أو من حيث البنيات ووسائل العمل، مبرزا أن مؤسسة البرلمان بعد ستين سنة باتت بدور جديد،  لا سيما بعد دستور 2011 الذي عزز دورها الدبلوماسي.

وأضاف أن البرلمان ساهم عبر مختلف مراحله في توسيع دوائر النخب، سواء المركزية الوطنية أو المحلية الترابية، مع تعزيز حضور المرأة وموجات التشبيب ومشاركة الهيئات النقابية ورجال الأعمال، والعديد من الفئات التي لم يكن لها حضور في قلب المؤسسة التشريعية في الماضي، مشيدا بالتطور الذي شهدته المؤسسة على مستوى البحث والتحليل في الشأن البرلماني من خلال إحداث مركز للأبحاث والدراسات.

ورصد الأستاذ عمر الشرقاوي عوامل انفتاح المؤسسة على محيطها مستعرضا جملة مؤشرات، منها قنوات تدفق المعلومات من وإلى البرلمان، ومدى انعكاس قضايا المجتمع على النقاش داخل المؤسسة التشريعية وإمكانية اطلاع الجمهور على المحاضر البرلمانية، وانفتاح المؤسسة على وسائل الإعلام وعلنية جلسات التصويت، مع التوفر على مصدر خاص بها للحصول على المعلومات، مبرزا من حيث المنظومة القانونية، أنه يمكن اعتبار البرلمان المغربي بمجلسيه من بين الأفضل على مستوى الأنظمة الداخلية، مقدما جملة مقترحات من قبيل إحداث مجلة برلمانية تحترم المقاييس العلمية أسوة بتجارب برلمانية دولية في هذا المجال، وتفعيل القناة البرلمانية، وتيسير شروط تقديم الملتمسات والعرائض، وإحداث منتدى برلماني مدني منفتح علي الجهات، وإصدار تقارير لقياس انفتاح البرلمان على محيطه من خلال مؤشرات مضبوطة.

أما الأستاذ الباحث عبد الحي المودن، فقد ناقش ما هناك من تحديات يواجهها العمل البرلماني على المستوى الدولي، في ضوء التحولات التي شهدها العالم خلال السنوات الأخيرة، والتي تمثل تحديات خطيرة لمسألة الممارسة الديمقراطية والبرلمانية، سواء في الأنظمة غير الديمقراطية التي يعتبر فيها البرلمان مؤسسة هامشية، أو في بعض الأنظمة الديمقراطية التي لا تركز على موضوع البرلمان بقدر ما  تنظر لكيفية اتخاذ القرارات من مصادر وفضاءات مختلفة.

وأشار إلى أن الانتقال الديمقراطي الذي عرفه العالم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ما لبث بعد فترة قصيرة أن شهد تراجعا خاصة في الأنظمة غير الديمقراطية التي كان يتوقع أن تتحول إلى أنظمة ديمقراطية.

وأضاف أن الديمقراطيات التقليدية عرفت هي الأخرى أزمة ديمقراطية بدرجات متفاوتة وأصبحت “ديمقراطيات جوفاء”، لا تؤدي إلى إنجازات عميقة تصب في صالح الأفراد، بل تعيد إنتاج الاختيارات السياسية التي تقوم عليها هذه الأنظمة.

من جهتها، سلطت الأستاذة الباحثة سلوى الزرهوني، الضوء في مداخلتها على العناية لما هناك من تحديات واشكاليات تواجهها الديمقراطية التمثيلية، مسجلة أن هذه الديمقراطية أصبحت تواجه تناقضا بين الدور النظري المنسوب للمواطن والتطورات في الواقع، من حيث أن الديمقراطية التمثيلية عرفت تطورا لا بد أن يواكبه المواطنون من خلال تحديث أدوارهم.

وقد استعرضت في هذا السياق، نظريات بعض المفكرين كجوزيف شومبتير وفليب غرين، الذين أكدا على ضرورة إعادة النظر في العلاقة بين المواطن والنظام الديمقراطي، أي تغيير طريقة تصور المواطنة ووظيفتها، وتمكين المواطنين من الحد الأدنى الضروري من مشاركة المواطنين الذي يتجلى في الحق في التصويت من أجل إضفاء الشرعية على الحكم والمراقبة النقدية.

وإذا كان العمل البرلماني وديمقراطية المؤسسات التمثيلية قد حققت نضجا على مستوى الاختصاصات وممارستها، من خلال الانفتاح على المجتمع المدني وتنظيم وتدبير العمل البرلماني، وإبرام شراكات مع برلمانات وطنية أخرى، وفق ما تضمنته رسالة ملكية سامية وجهها جلالة الملك للمشاركين في ندوة البرلمان في ذكراه الستين، فإنه وعلى الرغم مما تم تحقيقه في هذا المجال لا بد من مضاعفة الجهود للارتقاء بالديمقراطية التمثيلية المؤسساتية إلى المستوى الذي يريده جلالة الملك والذي يشرف المغرب، وأن من من أبرز التحديات التي ينبغي رفعها للسمو بالعمل البرلماني، ضرورة تغليب المصالح العليا للوطن والمواطنين على غيرها من الحسابات الحزبية، وتخليق الحياة البرلمانية من خلال إقرار مدونة للأخلاقيات في المؤسسة التشريعية بمجلسيها تكون ذات طابع قانوني ملزم، وتحقيق الانسجام بين ممارسة الديمقراطية التمثيلية والديمقراطية التشاركية، فضلا عن العمل على الرفع من جودة النخب البرلمانية والمنتخبة، وتعزيز ولوج النساء والشباب بشكل أكبر إلى المؤسسات التمثيلية، مع ما يجب من نشر لقيم الديمقراطية وترسيخ دولة القانون، وتكريس ثقافة المشاركة والحوار وتعزيز الثقة في المؤسسات المنتخبة، تقول رسالة جلالة الملك.

هكذا احتفى البرلمان المغربي بذكراه الستين بشراكة مع مؤسسة أرشيف المغرب، من خلال ندوة فكرية أثثها باحثون أكاديميون، وكذا إقامة معرض مواز كانت له رمزيته وقيمته المضافة، فضلا عما طبعه من تميز وأثر رافع في انجاح هذا الموعد وهذا الاحتفاء.

التعليقات مغلقة.