“البلوكاج الحكومي”: مباراة الإياب؟

جمال بدومة

يبدو أن استبدال عبد الإله بنكيران بسعد الدين العثماني على رأس الحكومة كان أهون على “العدالة والتنمية” من استبدال العربية بالفرنسية في التعليم. التطورات التي يعرفها حزب “المصباح” عقب التصويت المفاجئ على القانون الإطار للتربية والتعليم تحت قبة البرلمان، تؤكد ان الأمور بين “إخوان” الحكومة باتت مفتوحة على كل الاحتمالات.

ما بين “الصاروخ” الذي ارسله عبد الإله بنكيران على شكل “لايڤ” تابعه عشرات الآلاف من المغاربة، واستقالة ادريس الأزمي من رئاسة الفريق النيابي، و”النداء التحذيري” الذي وجهه مجموعة من “البيجيديين” الى قيادتهم، والجدل الذي شهده ملتقى الشبيبة نهاية الأسبوع… واضح ان زلزالا يهز اركان الحزب الذي أسسه عبد الكريم الخطيب، قبل اكثر من عشرين عاما، ولا احد يعرف عما ستسفر هزاته الارتدادية.

المعركة الجديدة داخل “العدالة والتنمية” تسلط الضوء على المأزق الذي يعيشه الحزب منذ انتخابات 2016، تحديدا منذ أن قبل التخلي عن عبد الاله بنكيران كرئيس للحكومة وتعويضه بسعد الدين العثماني، ارضاء لمن يصنعون “المطر والجو المشمس” في البلاد. 

رغم ان الحزب حاول مقاومة الفيضان الذي اكتسح مقراته، وإنقاذ ما يمكن انقاذه، فإن المياه غمرت أثاث البيت عن آخره، وبللت الأركان والعتبات.

استراتيجية التعالي عن الأسباب الحقيقية التي افضت الى اخراج بنكيران من الحكومة، نجحت في ترميم سطحي للشرخ الذي تسبب فيه الرضوخ للضغوط العليا، وفي احتواء مؤقت للرجة التي تعرضت لها استقلالية القرار الحزبي، لكن الأزمة التنظيمية لم تنته بل تأجلت فحسب، وكلما وجدت المناسبة سانحة تعبر عن نفسها بحدة اكبر، كما يظهر مع الشرخ الذي احدثه التصويت على القانون الإطار للتربية والتعليم.

الحقيقة ان “العدالة والتنمية” يوجد اليوم في وضع لا يحسد عليه: الصراع التنظيمي على اشده بين أنصار بنكيران وبين ما يسمى ب”تيار الاستوزار”، ورئيس الحكومة لا حول له ولا قوة، مجرد واجهة دستورية لتبرير نتائج الانتخابات. القرارات الحاسمة يتخذها المحيط الملكي، ولا سلطة له على اهم الحقائب الوزارية، من الداخلية الى الخارجية مرورا بالعدل والمالية والاقتصاد والفلاحة والصناعة والسياحة والإعلام…

عبد الإله بنكيران، بدهائه السياسي، فهم ان هشاشة الوضع تعني أن معركة “البلوكاج الحكومي” لم تنته بعد، ويريد ان يلعب مباراة الإياب، لذلك لا يفوت الفرصة كي يرمي صواريخه في اتجاه سفينة العثماني.

الرجل الذي قبل على مضض اعفاء الملك من رئاسة الحكومة وإعفاء الإخوان من رئاسة الحزب، أخذ الكلمة وتحدث كعادته دون لغة خشب، وربما كان السياسي الوحيد في الوقت الراهن الذي يسمي الأشياء بمسمياتها، دون لف او دوران، لذلك يثار حوله الجدل، ويملأ الدنيا ويشغل الناس. اتفقنا أو اختلفنا معه، لا احد يستطيع ان ينكر أن بنكيران يملك شجاعة الدفاع عن قناعاته امام الشعب مهما كلفه الثمن، وانه رجل يقدم الموقف على المنصب…

مشكلة المشهد السياسي المغربي ان الله ابتلاه باشخاص يقدمون مصالحهم الشخصية على مصلحة الوطن، ولا يريدون تحمل مسؤولياتهم أوقات الجد، يهربون من القضايا الساخنة، ويمارسون الصمت غير الحكيم والتناقض في المواقف، دون ان يرف لهم جفن، المهم ان يحافظوا على مناصبهم.

ومشكلة “العدالة والتنمية” انه بنى مشروعه على الدفاع عن الهوية في مكونها الديني واللغوي، لكنه لم يتردد في التنازل عن قناعاته في قضية مصيرية، دون ان يبرر ذلك لناخبيه وقواعده.

واضح ان حزب العثماني يريد ان يتحول الى حزب منسجم مع “الدولة العميقة”، عن طريق تقديم كل التنازلات المطلوبة، رغم ان ذلك مستحيل بسبب إيديولوجيته وظروف نشأته، لا يريد ان يتعظ من تجربة “الاتحاد الاشتراكي” الذي سبقه في مسلسل الانبطاح، ولم يجن الا الخسارة والاندثار ، ولا يريد ان يتأمل قول الشاعر: “من يهن يسهل الهوان عليه/ ما لجرح بميت إيلام”.

بمجرد وصولهم الى المسؤولية أبان بعض قياديي “العدالة والتنمية” عن جشع وطمع لم يكن حتى أشد خصومهم يتوقعونه. ولا شك ان “من يصنعون الشمس والمطر” في المملكة باتوا يعرفون اين توجد نقطة ضعفهم، وسيخرجون الملفات في الوقت المناسب. عندما عوقب عدد من الوزراء والمسؤولين على خلفية احداث الريف واهمال مشاريع “منارة المتوسط”، لم يكن في اللائحة أي واحد من “العدالة والتنمية”، رغم ان المطلعين على خبايا الأمور يعرفون أن ملفات بعض المسؤولين “الإسلاميين” في الوزارات والمجالس المنتخبة، جاهزة، لا ينقص الا الضوء الأخضر كي يتم تحويلها الى العدالة. 

لا ننسى ان مسطرة الاعتقال في حق خليد عليوة صدرت بعد ان غرق الاتحاديون في المستنقع وتمرغوا في نعيم السلطة!

التعليقات مغلقة.