و اقترب زمن النبيذ السياسي في المغرب المشهد السياسي المغربي بين منطقي “البازارات” و التعبير عن قضايا الوطن و المواطنين  

بقلم : محمد حميمداني 

مع اقتراب موعد إجراء الانتخابات ، و خاصة البرلمانية منها ، يبدأ مسلسل الهجرة من أقبية أحزاب للاستقرار على عرش نبيذ أخرى بغاية المتعة التي لا تعني سوى المزيد من الحضور ضمن صنمية العهدة البرلمانية و استغلال ما تذره من امتيازات مباشرة و غير مباشرة .

اقترب الموعد الانتخابي و معه اشتعل لهيب عمل وسطاء هذا المعبد بغاية استقطاب رساميل مالية لتغذية الرساميل الحزبية ، و ضمان قاعدة أصوات تشتغل في الظلام “النوار” للوصول إلى أرقام و معادلات برلمانية تمكن من حصد أرقام تؤهل لاقتسام الوزيعة و الكعك الوزاري و المؤسساتي ، و بالتالي الاستفادة مما تذره خيرات هاته المؤسسات من درر مادية و عناقيد الإعفاءات و تسهيل الصفقات ، و هو ما خلق جوا من الفوضى لفت المشهد السياسي المغربي ، في رحلات مكوكية جماعية منظمة نحو وجهات و ألوان انتخابية جديدة غير الأصلية منها (خاصة من حزب المصباح إلى حزب الحمامة) . 

إن الهدف من هاته الرحلات المكوكية هو ضمان قاعدة مالية هامة تمكن من در الأموال على الشيوخ أولا ، و على المريدين ثانيا ، و على الأتباع و التباع ثالثا بهدف ضمان مقعد يمكن من إيصال الزعيم و حزبه إلى قيادة “تحالفات” لا تحمل من جوهرها سوى البحث عن ما تذره من حليب و لبن يعود نفعا و سلاما على أطرافه كلها .    

و بطبيعة الحال فالظاهرة عجت و تعج بها الأحزاب الكبرى في المغرب من خلال نشاط سماسرة لاستقطاب رموز و أسماء هامة وازنة اقتصاديا و اجتماعيا لدروب تلك الأحزاب استعدادا ليوم الحسم العظيم في ماراطون الخمس سنوات المقبل البرلماني و الحكومي .

الوضع ليس بجديد بل أن هاته العملية أصبحت ملازمة لكل استحقاقات انتخابية ، فانتخابات سنة 2016 عرفت موجة هجرة شبه جماعية “للحمام” في اتجاه “التراكتور” ، من خلال استقطاب حزب “الأصالة و المعاصرة” لأسماء سياسية كبيرة من أحزاب أخرى خاصة من “التجمع الوطني للأحرار” .      

فكيف يمكن فهم و تقييم هاته الظاهرة الغريبة عن الأعراف الديمقراطية ؟

البعض اعتبر القضية تتعلق بمشكلة ثقافية و أخلاقية تعكس هشاشة بنية التكوين الحزبي لدى كل الأحزاب المغربية ، فيما أرجعه البعض الآخر إلى سيادة النزعة المصلحية و الانتهازية المرتبطة بتقلبات السوق السياسي القائم على كل أدوات الفساد و الإفساد من خلال الأدوات و الوسائط المتيحة لهذا النوع من النزيف الحارق من الاستشراء و التوسع و التمدد مع كل تهليلة انتخابية ، و أنها تكرس واقع الريع السياسي الذي يلف المشهد السياسي العام الوطني . 

أقرب المتفائلين يرى أن هاته الظاهرة لن تؤول إلى الزوال بل إلى المزيد من التعمق و التجدد و هو ما لمسناه خلال إطلالة هاته الانتخابات ، فالحديث عن “ميثاق شرف انتخابي” هو جعجعة في طحين ليس إلا ، لأن مجمل الأحزاب تنتعش “بازاراتها” خلال هاته الفترة ، بل أنها تكرس و تشجع هذا النمط من الهجرة نحو الشرايين باعتماد الريع وسيلة للوصول ، و هو الذي يمكن من الاستفادة من كافة إمكانيات إفساد العملية الانتخابية ، عن طريق جلب الأعيان ، و أصحاب القوة المالية و الاجتماعية المشكلين ل “فيتو” انتخابي قوي يكرس منطق الغنيمة في التوزيع الانتخابي و يمكن من تحديد تقاطعات براغماتية متبادلة بين الإطارات السياسية و فلول المصالح النفعية .

و على الرغم من أن التعديلات الدستورية لسنة 2011 و كذلك الديباجة الواردة في القانون التنظيمي للأحزاب السياسية في المغرب حاولت منع هاته العمليات ، و إرساء المجلس الدستوري ما اسماه ب “الوفاء السياسي” و الذي قيد عملية تغيير اللون بحقوق الناخبين و الهيئات السياسية التي منحت الترشيح لمهام انتدابية ، فيما أسماه نطاقا تعاقديا بين الطرفين ، إلا أن البعدين الدستوري و القانوني لم يستطيعا إعاقة اتساع هاته الظاهرة مع كل عملية انتخابية ، بل أنهما عبرا عن عجزهما على اقتلاع “الترحال السياسي” كورم من الجسم المؤسساتي ، و هو ما يطرح إصلاحا جذريا للمنظومة السياسية ، و دفعا لتطوير الثقافة الحزبية في أفق تجاوز النفعية و البراجماتية في التعامل مع كل الاستحقاقات الانتخابية ، لما يخدم المصلحة العامة ، أي إعادة بناء الإنسان داخل هاته المؤسسات السياسية ، و إعادة بناء هاته المؤسسات على قاعدة أنسنتها و جعلها خادمة للوطن و للمواطن بدل سقوطها في خدمة سدنة الفساد و الإفساد لمنظومة القيم و الانتخابات ، و المدخل إلى ذلك هو المزيد من تعميق الديمقراطية و توسيع دائرة القضاء للضرب على يد كل المخالفات المسجلة . 

فعقوبة فقدان المقعد الانتخابي التي سنها دستور 2011 ، و الذي تم تنزيله و تكريسه في باقي القوانين التنظيمية الأخرى المتعلقة بالانتخابات ، سواء الجماعية منها أو المهنية ، لم تعطل انتشار الظاهرة بل سجلت انتشارا قويا لها خلال كل الاستحقاقات الانتخابية بما في ذلك تلك التي هي على الأبواب .

إن استمرار هاته الظاهرة شكل و يشكل أهم عائق في عملية التحول الديمقراطي ، و هو الأمر الذي يتطلب القطع الجذري معها و اجتثاثها من المشهد السياسي المغربي ، عبر تكوين الفرد على احترام الانتماء و الانتساب في مضمار التصويت التعاقدي و تكريس الديمقراطية و قيم الحرية في الاختيار حتى داخل الأحزاب السياسية نفسها ، فتجريد برلمانيين من مقاعدهم وفق ما نص عليه الفصل 61 من دستور 2011 و الذي قضى على أنه يجرد من صفة عضو في أحد المجلسين ، كل من تخلى عن انتمائه السياسي الذي ترشح باسمه للانتخابات ، أو عن الفريق أو المجموعة البرلمانية التي ينتمي إليها” ، ليست كافيا ، فالمطلوب ملأ الثغرات القانونية العديدة التي يركب بموجها الفساد لإفساد المنظومة في شموليتها .

و الاستحقاقات الحالية ستسجل أكبر نسبة ترحال سياسي في تاريخ المغرب الحديث ، و هو ما أفرزته الوقائع الميدانية في عدة مناطق من المغرب ، بل أن عملية الترحال خلال هاته الاستحقاقات عرفت هجرة جماعية كما وقع في مناطق بجنوب المغرب (تارودانت) من “البيجيدي” خلال يناير من سنة 2021 ، و نفس الوضع شهده حزب “البام” .

“عبد اللطيف وهبي” ، الأمين العم لحزب الأصالة و المعاصرة ، تحدث عن ميثاق أخلاقي بين 4 مكونات سياسية نص على عدم “سرقة المنتخبين” ، معتبرا ذاك مدخلا للحفاظ “على مصداقية العمل السياسي” ، وفق تعبيره .

الأكيد أن المشهد السياسي المغربي على لهيب نار حامية خلال هاته الاستحقاقات الانتخابية ، و أن كل المحاولات التي بدلت من أجل تنقية المشهد السياسي من الشوائب لم تزد الوضع إلا قثامة نتيجة سيطرة الفساد على دواليب السياسة عينها ، و أن هذا المسار الذي امتد مند سنة 1962 و إلى غاية الآن لم يستطع دستور 2011 إلا إبرازه للوجود مع استمرار نفس النخب و بنفس منطق العقليات السابقة عن 2011 في تكريسه واقعا عبر تغييب كل إمكانية للتربية السياسية الحزبية الداخلية ، و قتل كل إمكانية للتعبير الديمقراطي في اختيار المرشحين من داخل كوادر و مناضلي الحزب ، و القطع مع “البازارات” السياسية التي لا تبحث إلا عن أرقام موصلة لسدة الحكم ، و ليس للتعبير عن هموم الناس و قضايا الوطن و المواطنين ، كما أن المطلوب ليس “ميثاق أخلاقي” ، بل القطع مع كل عمليات إفساد المشهد السياسي و إبرام عقد سياسي جديد يكون القضاء العادل و الصارم و الزاجر ضمان استمراريته و القطع مع اختلالاته التي يمكن رصدها .    

التعليقات مغلقة.