مَقَاهِي الزّمن الجميل أدب وثقافة وترَف وترفيه

د..محمد .م.الخطابي

 

المقاهي الأدبية الباقية ، و فى بعض البلدان العربية ، و فى أماكن أخرى من العالم ، تكاد تُحصىَ اليوم على الأصابع ، قليلة جدّاً تلك الباقية منها اليوم ، التي ما فتئت تقدّم لمرتاديها و زبنائها جرعات ثقافية و أدبية أو شعرية مع رشفات فناجين القهوة التي تقدّمها لهم ، القليل الباقى من هذه المقاهي الأدبية ما زالت تصارع الزّمن ، و تواجه الزّوابع العاتية التي أصبحت تعصف بها من كلّ نوع من أزمات إقتصادية ، و إضطرابات إجتماعية ، إلى جانب إنتشار التكنولوجيا المتطوّرة التي ملأت الأسواق و الحياة العامة بالحواسيب ، و الهواتف الذكيّة (سمارتفون) ، و الهواتف النقّالة التي أصبحت الشغل الشّاغل لكلّ الناس من كلّ الأعمار و الأجناس ، يُضاف إلى ذلك دور السينما و المسارح و المقاهي العامّة العادية ، و النوادي الخصوصية التي يكثر و يعشعش في جنباتها كل ضرب من ضروب اللعب ، و اللهو ، و التسلية و التسرّي ، و كل صنف من أصناف الورق ، و الطاولة ، و النرد ، و الشطرنج ، و الدومينو و الزّهر إلخ ، ناهيك عن الإنترنيت و توابعه من الفيسبوك ، و التويتر ، و اليوتوب ، و كل ما يقدّمه من أفلام و وثائقيّات و فرجات و عروض مغرية مسلية و مثيرة ، و عن الفضائيات التي لا حصر لها و التي أمست تملأ الدنيا عرضاً و طولاً و هي لا تعدّ و لا تحصي ، و تشغل الناس و تثنيهم عن القيام بواجباتهم اليومية الضرورية .

 

مع هذا الزّخم الإعلامي و التكنولوجي الهائل، و التلاطم المتواتر أصبحت المقاهي الأدبية تعدّ اليوم على الأنامل فى معظم مدن و عواصم العالم ، و التي لم تعد تخيّم عليها سوى أجواء الكآبة ، و التعاسة ، و المعاناة ، و العزلة ، و الوحدة و الإنطوائية و وجع الدماغ ، إنّها تنعي ماضيها التليد ، و تتحسّر على مجدها الضائع ، و يسترجع الناس ذكريات روّادها القدامى من الكتّاب ، و المبدعين التي تغصّ بها كتبهم و دواوينهم و ألبوماتهم الخاصّة ، و صفحات الجرائد ، و المجلات القديمة ، و تظل الكراسي ، و الطاولات ، و الصّورالمعلّقة على جدران المقاهي قَدَراً مُشعلاً على ثبج القلوب ، و صحافُ العقول شاهدةٌ على مرور الزّمن ، و إنسيابه نصب أعيننا كأتيٍّ منهمرٍ  .

 

المنفلوطي و المقاهي

غيرُ قليلٍ من العواصم ، و المدن العربية الكبرى عرفت المقاهي الأدبية كذلك ، من منّا لا يذكر فى هذا القبيل مقاهى : الفيشاوي ، و متاتيا ، و محمد عبد الله ، و ريش ، و البوستة بمصر . و البرازيل ، و الهافانا بسورية ، و فلسطين ، و متري و فتوح أوشقير و النجار ، و المودكا بلبنان . و عمون، و الشريف الدولي ، و الفينيق ، و شهرزاد بالأردن . و الزهاوي بالعراق ، و العيّادي و تحت السّور بتونس ، و مقهى باليما بالمغرب ، و الرمّانة بالجزائر ، و مقهى الصعاليك بالقدس .. و سواها من المقاهي العربية المشهورة التي كانت ملتقى الأدباء و الشعراء ، و المفكرين و الفلاسفة ، و أهل الفنّ و الموسيقى ، و المشتغلين بالسينما و المسرح إلخ .

 

و معروف أنّ صاحب النظرات و العبرات الأديب المصري الذائع الصّيت مصطفى لطفى المنفلوطي كان نادراً ما يرتاد المقاهي ، كان ينصح قرّاء “نظراته” و ”عبراته” بعدم ضياع وقتهم بين لعب النّرد ، و الطاولة ، و الورق . كان يعيب على الناس إرتيادهم للمقاهي ، و يعجب كيف لا يؤمّون – بدلاً منها – المكتبات ، و دور الكتب و المعرفة و العرفان للنّهل من العلم ، و الغوص في بحوره . و من مفارقات الحياة و أعاجيبها ، أنّ العديد من الأدباء و الشّعراء الذين عاصروه أو جاءوا بعده من مواطنيه ، و نفس طينته و جلدته ، كانوا مولعين بالجلوس في المقاهي – و ما أكثرها فى مصر- و مع ذلك أبدعوا و نبغوا و أجادو فى كل مجالات الفنون ، و الأدب ، و الخلق ، و الإبداع .. !

 

المقاهي الأدبية في إسبانيا

مثلما هو عليه الشأن فى مختلف مدن و حواضر عالمنا العربي ، فإن جارتنا إسبانيا عرفت هي الأخرى هذا النوع من المقاهي الأدبية التي لم تكن موجودة فى العاصمة مدريد و حسب ، بل إنّها كانت منتشرة فى مختلف المدن إلإسبانية الأخرى ، إلاّ أنّ معظم هذه المقاهي اليوم لم يعد لها وجود فى الوقت الرّاهن سوى فى بعض المدن الإسبانية الكبرى مثل مدريد ( مقهى خيخون) ، و بامبلونا (مقهى إيرونيا) ، و سالامنكا (مقهى نوفيلتي ) ، و برازيليرا مقهى شهيرة بلشبونة كانت أثيرةً لدى الشاعر البرتغالي الكبير فرناندو بيسووّا و التي أخذت لي فيها صورة تذكارية مع مُجسّم هذا الشاعر الذائع الصّيت . هذه المقاهي الأدبية القليلة الباقية مثل نظيراتها فى مختلف أنحاء المعمور ، ما زالت تصارع الزّمن ، و تتحدّى الصعوبات ، و تتأسّى على ماضيها التليد و تعمل قدر استطاعتها على تذليل العقبات التي يفرضها العصر ، و تجاوز الإكراهات التي تواجهها من كلّ صوبٍ و حدب ، منها :

 

مقهى إِيرُونْيَا بمدينة بَامبْلُونَا

هذه المقهى الأدبية أسّست عام 1888 و الكائنة فى مدينة بامبلونا الواقعة فى شمال إسبانيا ( إقليم نافارّا) و المعروفة بحفلات “سان فيرمين ” الشهيرة التي تطلق فيها الثيران الهائجة على عواهنها فى شوارع المدينة و أزقّتها فى إتّجاه ساحة المصارعة و هي تهرول و تجري و تخبط خبط عشواء فى جنون لا تلوي على شئ وراء أفواج من الشباب المتحمّس الذي يتحدّى الموت ، و عادة ما يرتدى المشاركون فى هذه الحفلات الصاخبة الأقمصة البيضاء ، و يلفّون المناديل الحُمر حول أعناقهم ( تنظّم هذه الحفلات كل سنة من (6 يوليو ، تموز) حتى 14 من نفس الشهرالجاري من كل عام ) . كانت هذه المقهى أوّلَ مركز تجاري أدخل لها التيّار الكهربائي فى تاريخ المدينة ، و أصبحت لها شهرة عالمية بفضل الكاتب و الرّوائي الأمريكي الذائع الصّيت ” إرنيست همنغواي ” (صاحب” العجوز و البحر”، و” لمن تقرع الأجراس” ،و سواهما من الأعمال الإبداعية الأخرى) كان همنغواي من أشهر روّاد هذه المقهى خلال موسم تنظيم حفلات سان فيرمين المذكورة ، حيث زار هذه المدينة تسع مرّات ، و كانت هذه المقهى مكانه المأثور ، و لقد أطلِق إسمُه على ركنٍ من أركان هذه المقهى ، بل و أقيم مجسّم نصفي له بداخلها إستذكاراً ،و استحضاراً ، و تكريماً لهذا الكاتب الكبير الذي خلّد هذه المدينة و مقهاها الأدبية و حفلاتها الشهيرة كذلك فى روايته التي تحمل عنوان : ”الشمس تشرق أيضاً “( 1926 ) و التي أطلق عليها فيما بعد فى اللغة الإسبانية إسم أو عنوان ” حفلة “ ، إرنست همنغواي حاصل على جائزتي بوليتزر (1953) وعلى نوبل فى الآداب ( 1954) و ما زالت هذه المقهي إلى يومنا هذا تشكّل محجّاً و ملتقىً للعديد من الأدباء ، و الكتّاب ،و الشعراء ، و الفنّانين ، و السّاسة ، و المشتغلين بمجالي السّينما و المسرح الذين يؤمّونها بانتظام كما كان الشأن أيّام إرتياد همنغواي لها .

 

“خِيخُون” أشهر مقاهي مدريد الأدبية

من غرائب الصّدف التي تواجهنا عند الحديث عن مقهى” خيخون ” الشهيرة ، كونها أسّست هي الأخرى فى نفس العام الذي أسّست فيه مقهى” إيرونيا ” المذكورة آنفا بمدينة بامبلونا عام 1888 ، تُعتبر هذه المقهى ذات أهميّة ثقافية كبرى فى التاريخ الإسباني المعاصر ، إنها توجد فى قلب مدينة مدريد بشارع ( لا كاستيانا) الذي يُعتبر من أكبر و أفخم شوارع العاصمة الإسبانية ، بالقرب من المكتبة الوطنية الإسبانية (أكبر و أهمّ و أقدم المكتبات فى إسبانيا على الإطلاق) . (أنظر مقالي فى “القدس العربي” فى هذا الصدد العدد 7196 بتاريخ 3 أغسطس2012) . مقهى “خيخون” التي بدأت بداية متواضعة بعد تأسيسها فى أواخر القرن التاسع عشر سرعان ما أصبحت بعد الحرب الأهلية الإسبانية الضروس (1936- 1939) من أهمّ المقاهي الفخمة المعروفة فى مدريد ، التي اشتهرت بالإجتماعات ، و اللقاءات ، و الندوات ، و الدردشات الأدبية التي كان يجريها بها صفوة من الكتّاب ، و المثقفين ، و الشعراء ، و الفنّانين الإسبان الكبار سواء خلال حكم الجنرال “فرانسيسكو فرانكو” ، أو خلال المرحلة الإنتقالية لإسبانيا الحديثة بعد استلام مقاليد الحكم فى إسبانيا من طرف العاهل الإسباني السابق “خوان كارلوس الأوّل” .

 

العديد من الكتّاب الإسبان المشاهير الذين كانوا يؤمّون هذه المقهى خلّدوها فى أعمالهم الإبداعية و الأدبية أشهرهم الكاتب الإسباني الكبير الراحل ” كاميلو خوسّيه ثيلا” الحاصل على جائزة نوبل فى الآداب عام ( 1989) عن روايته المعروفة ” الخليّة” (1949) التي نقلت إلى السينما بنجاح باهر للمخرج الإسباني ” ماريو كاموس” ،حتى و لو أطلِق على هذه المقهى فى الفيلم إسمٌ آخر وهو ” لاديليسيا”، و “كاميلو خوسّيه ثِيلاَ” هو صاحب الرّواية المعروفة كذلك “عائلة باسكوال دوارتي” و سواها من الأعمال الروائية الأخرى المعروفة .

 

مقهى خيخون وجائزتها الأدبية

ودأبت هذه المقهى على تنظيم جائزة أدبية هامّة تحمل إسمَها و هي “جائزة مقهى خيخون” ، و تقف هذه المقهى الشهيرة شاهدة على عصر بأكمله فى تاريخ إسبانيا المعاصرالحافل بالأحداث ، و التقلّبات ، و التطوّرات الذي يمتدّ إلى قرن ونيّف من الزّمان الذي ولّى و خلا . و قد وضع الكاتب الإسباني “مارينو غوميس سانتوس” كتاباً طريفاً موفياً عن تاريخ مقهى خيخون عام 1955 ، كما وضع الباحث الإسباني ” ماريانو توديلا” دراسة مستفيضة حول نفس المقهى بمناسبة الذكرى المئوية لتأسيسها ، كما نشر الكاتب الإسباني المعروف “فرانسيسكو أومبرال” كتاباً تحت عنوان : ” ليلة وصولي إلى مقهى خيخون” بالإضافة إلى تعرّض العديد من كبار الكتّاب الإسبان لهذا المقهى فى مختلف أعمالهم،وإبدعاتهم الشعرية و النثرية على حدٍّ سواء .

 

و بعد أن أخذت هذه المقهى حظها فى الذيوع و الإنتشار ، و إستلمت الزعامة فى هذا المجال من مقاهٍ أخرى عديدة كان لها قصب السبق فى هذا المضمار من قبل فى مدريد ، أجريت عليها تحسينات كبرى ، و ترميمات متوالية منذ نهاية القرن التاسع عشر و بداية القرن العشرين ، فوضعت بداخلها الطاولات المرمرية الشهيرة . و بدأت منذ ذلك الإبّان التجمّعات الأدبية ، و الحوارات الفكرية ، و الأمسيات الشعرية ، و الجلسات السياسية ، و دردشات محبّي مصارعة الثيران ، و لعبة كرة القدم ، من الأدباء و الفنّانين ، و المشاهير الذين كانوا يرتادون  و يغشون هذه المقهى قبل “كاميلو خوسّيه سيلا” بسنين ، أمثال العالم الإسباني الكبير “رامون إي كاخال” (حاصل على جائزة نوبل فى الطبّ 1906) ، و الكاتب الروائي الأسباني العالمي “بينيتو بيريث غالدوس” ، و الكاتب المسرحي اللاّمع “رامون دِلْ فايّي إنكلان” ، (أنظر مقالنا الأخير عنه فى العدد الاسبوعي ” للقدس العربي” المؤرّخ فى الأحد 24 (تموز) يوليو 2016 بعنوان” بذراعٍ واحدة أثرى الأدب الاسباني مثل مواطنه سيرفانتيس) بالإضافة إلى العديد من الشخصيات الفنية و السينمائية العالمية مثل ” إيفا غاردنر” و”أورسون ويلز” “و الممثل البريطاني “جورج ساندرز” و سواهم ، كما كانت ترتاد هذه المقهى شخصيات سياسية ، و عسكرية عالمية ، و رجال المال و الأعمال ، و الجواسيس أشهرهم الجاسوسة الهولاندية الشهيرة “ماتا هاري” التي أعدمها الفرنسيون عام 1917 . و فى العشرينات و الثلاثينيات من القرن المنصرم كان أمراً عادياً أن تلتقى فيه بكتاب و شعراء كبار مثل “فدريكو غارسيا لوركا” ،و “رفائيل ألبرتي” ،و “فيسينتي ألكسندري” ،و “دامسو ألونسو” ، و سواهم من الكتّاب و الشعراء ، ثم جاءت بعد ذلك تجمّعات ” لقاءات الشعراء” التي كان يرأسها و يديرها الشاعر الإسباني”خيراردو دييغو” ، و بالجملة مرّ بهذه المقهى مختلف الكتاب و الشعراء الكبار المنتمين لجيل 1927 الأدبي الإسباني الذائع الصّيت .

 

مقهى نوفيلتي بمدينة سَالاَمَانْكَا

المقهى الأدبية الإسبانية الثالثة التي ما زالت تفتح أبوابَها لروّادها من الأدباء ، و الكتّاب ، و السّاسة ، و الشعراء ، و الفنانين هي مقهى (نوفيلتي) الكائنة بالساحة العمومية الكبرى بمدينة سالامانكا ( بنيت هذه الساحة على غرار ساحة مدريد الكبرى) ، يزيد عمر هذه المقهى عن مئة سنة هي الأخرى ، إذ افتتحت عام 1905 ، و من المشاهير و الشخصيات الإسبانية البارزة فى عالم الادب و الفكر و السياسة التي كانت تؤمّ هذه المقهى الفيلسوف الإسباني الكبير ” ميغيل دى أونامونو” الذي كانت له إجتماعات و حواريات يومية فيها ، كما كان يرتادها بانتظام المفكر الإسباني الكبير” خوسّيه أورتيغا إي غاسيت” و “أنطونيو توبار” ، و “خوان بونيت” ، و “فرانسيسكو أومبرال” ، و “تورّينتي باجستير” ، و “غارسيا دي لا كونشا” (رئيس الاكاديمية الملكية للغة الإسبانية السابق) ، و يرتادها اليوم الكاتب البيروفي المعروف “ماريو برغاس يوسا” ، كلّما زار مدينة سالامانكا ، و سواهم من المشاهير . و فى مقرّ هذه المقهى تمّ تأسيس الإذاعة الوطنية الإسبانية عام 1936 ، و لهذه المقهى مجلّة أدبية أسّست منذ 1999 و هي تنشر العديد من المواضيع الأدبية و الإبداعية للكتّاب الإسبان خاصة المنتمين لمدينة سالامانكا ، و الغريب أنّ هذه المقهى لا يؤمّها فقط الأدباء ، بل كان يجتمع فيه كذلك التجّار الكبار ، و رجال المال و الأعمال ، و أصحاب الضّيع ، و العِزب ، و المواشي و الصناعات الكبرى ، كما يرتادها المحامون ، و الأطباء ، و أساتذة كرسي جامعة سالامانكا الشهيرة التي تعدّ أقدم جامعة فى إسبانيا (أسّست عام 1218 م) ، و لقد أمّ هذه المقهى ، و تعشّى في مطعمها الفاخر العاهل الإسباني “ألفونسو الثالث عشر” ( جدّ العاهل الإسباني السابق خوان كارلوس الأوّل دي بوربون) ، و من الشخصيات العالمية المرموقة التي زارت هذا المقهى كذلك الرئيس الأمريكي السابق “جيمي كارتر” ، و الرئيس الفرنسي الراحل “فرانسوا ميتيران” ، و من السياسيين الإسبان البارزين رئيس الحكومة الإسبانية السابق “خوسّيه لويس رودريغيس ثاباتيرو” ، و الزّعيم الشيوعي التاريخي الإسباني الشهير الرّاحل “سانتياغو كارّييّو” ، و سواهم من الشخصيات الأخرى الإسبانية و العالمية على حدٍّ سواء .

التعليقات مغلقة.