تازة: حول الملتقى الوطني الأول للمدينة العتيقة

عبد السلام انويكًة

تجعلها متحفا حقا مفتوحا بنبض ووقع وجذب خاص، تلك هي تجليات ما تحضنه تازة العتيقة من إرث حضاري مادي ولا مادي، حيث معالم تاريخ وتراث بقدر قدمها وانسانيتها بقدر ما يسكنها من سحر مشهد ورواية وعظمة أثر، ولعل مما يجعل هذه الحاضرة المغربية بنوع من الخصوصية، هو ما هي عليه من أشكال تعمير وقواسم أثاث مغربي أصيل؛ وغير خاف عن المهتمين ما يطبع المدينة من مستويات تعمير منذ العصر الوسيط، وأن بقدر ما هي عليه من زخم موارد زمن بقدر ما توجد عليه من تحديات، إنْ صوب ما يخص حفظ روح مجال عتيق وكائن إرث ممتد، أو ما يتعلق بسبل ادماجه ضمن ورش محلي من شأنه جعل المدينة بما ينبغي من دينامية، أكثر انسجاما وانفتاحا وتفاعلا مع محيطها عبر استعادة إشعاع، ومعه جذب وإنتاج ثروة. 

وقد شهدت تازة منذ على الأقل من ربع قرن جملة مبادرات، استهدفت إعادة الروح لفضائها الأصيل، وإعادة توجيه مكوناتها ضمن أفق ثقافة إنقاذ وقراءة مؤهلات وسبل تدخل وادماج، كل هذا وذاك من اجل نماء محلي اجتماعي اقتصادي مستدام، فضلا عن تثمين تراث في شقه الرمزي والمادي، وعيا بكون إشعاع ودينامية حياة هذه الأخيرة وديناميتها، ليس هو فقط حماية ما هناك من تراث، وإنما أيضا ما ينبغي من مشاريع عملية استشرافية منسجمة ذات صلة.

وعليه، فما يمكن أن يسهم به مثلا ما هو ثقافي تراثي أصيل، في مسار ورهان تنمية محلية سياحية ثقافية منعشة لمجال عتيق، وهو ما لم يكن غائبا في وعي وتأملات مجتمع المدينة المدني المحلي منذ فترة، لِما بلوره هذا الأخير من رؤى وأفكار ومقترحات وتشارك ومعطيات عمل. 

 

ولا شك أن ما هو ثقافي سياحي بتازة العتيقة لا يزال دون تصور واضح ولا استغلال أفيد لجعله مصدر موارد، من حيث مثلا فضلا عما هو عبارة عن رواج تجاري مع توفير فرص شغل ضمن بيئة أثرية، وشواهد تعاقب، وفسيفساء حضارة وتعمير وذاكرة، من شأنها إرساء أسس أفق تنمية محلية سياحية ولو في بعدها وحلمها الداخلي لكسر ما هناك من جمود كخطوة أولى.

وكانت جعبة الفعل الجمعوي بتازة منذ حوالي ربع قرن بمساحة أفكار رفيعة ذات علاقة، مع وعي بذخائر المدينة ومدخلات ومخرجات بعض ما يخص تسويق ترابها، ويتبين أنه رغم ما طبع فعل مجتمع تازة المدني التنموي المجالي المحلي من تفاعل أفقي، فقد كان برأي صوب ملفات وآليات ارتأى أن من شأنها تحريك عجلة التنمية من خلال حكامة إدماج ما هناك من خصوصية. 

إشارات ارتأينا أنها ذات أهمية لتسليط بعض الضوء حول ما كانت عليه تازة العتيقة، من انشغال بكيانها الثقافي التراثي، ومن رهان جمعوي لجعل ما هو تراب تراثي رافعة لتنمية محلية ومستقبل مدينة، وذلك من خلال ما توزع عليه ورش أول ملتقى خاص بالمدينة العتيقة “تازة”، والذي للأسف كان الأول والأخير، ذلك الذي أطرته يوما ما “جمعية إنقاذ المدينة العتيقة” تحت شعار “تازة: تراث حضارة ومعمار”، والذي كان ببصمة خاصة غير مسبوقة بل بدون بادرة شبيهة لحد الآن في بعدها الثقافي الإنمائي، نظرا لِما كان عليه ليس فقط من تشخيص لواقع حال، بل من قراءات وإجراءات ضمن بادرة تشارك جمعت الى جانب جمعية إنقاذ المدينة العتيقة، الوكالة الحضرية، وقد كانت في بداية مسارها، وكذا عمالة الإقليم والجماعة الحضرية لتازة العليا آنذاك، فضلا عن نخبة من المهتمين والمتخصصين والباحثين المتميزين في مجال المدينة العتيقة لبلورة وتأطير جملة محاور.

 

هكذا تأسس ملتقى تازة الأول للمدينة العتيقة أواخر تسعينيات القرن الماضي، على وعي جمعوي محلي تجاه تراث تازة الحضاري والمعماري، باعتباره إطارا لتلاقح ماض بحاضر وآلية لاستشراف مستقبل المدينة وإحياء إشعاعها، عبر ما ينبغي من نجاعة استراتيجية ضمن خطة إدماج وتنمية حضرية شاملة، ومن تقدير لِما تزخر به المدينة من إرث عمراني يتقاسمه المجال العتيق ضمن خريطة تموقع متكامل.

وكانت ديباجة وأوراق ملتقى تازة الأول للمدينة العتيقة قد استحضرت فضلا عما لعبته من أدوار عبر تاريخ البلاد، باعتبارها حلقة وصل بين شرقها وغربها، ما هي عليه كمجال خصب للدراسة والبحث من أجل مزيد من التحسيس بقيمتها، ومن ثمة تحفيز المتدخلين والفاعلين لصيانة وحماية إرثها الحضاري الإنساني. 

 

ولعل من التساؤلات التي ملأت هذا الموعد العلمي الإنمائي قبل حوالي ربع قرن، قضية تعمير المدينة عبر الزمن وخصوصية نسيجها العتيق وكذا ما هناك من تفرد عمراني أثري مادي، جعلها بلبنات إرث حضري وحضاري كانت أدواره بقدر كبير من الأهمية في الماضي، ذلك العنصر الحيوي الغني الذي شهد ما شهده من إهمال وتلاش وإتلاف، إنما دون انحطاط ولا تدهور لا رجعي مثلما عرفته حواضر أخرى باتت مجرد خبر.

وكانت أوراق ملتقى تازة الأول للمدينة العتيقة قد توقفت بشكل جلي على أسباب ما حصل من تدهور، منها خاصة ما هو بعلاقة مع تزايد كثافة سكانية وتغير وظائف نسيج أصيل للمدينة، وكذا ما هنالك من فعل وتفاعل هجرة وبروز لأنماط تعمير جديدة، فضلا عن إتلاف لمعالم تاريخية أثرية وغيرها.

 

ولم تغب في قراءات واقع حال المدينة في ملتقاها الأول هذا، ما حصل من توسع للمدينة الجديدة في الاتجاهين الشرقي والغربي على طول ممر طرقي رئيسي رابط بين فاس ووجدة، وهو التمدد الترابي الذي جعل المدينة العتيقة بنوع من الهامش والتهميش دون إجراءات تدخل في حينه، ناهيك عما تطرق إليه المتدخلون حول تلاشي نسيج المدينة العمراني وتعويضه بمبان حديثة دون احترام لما هناك من نمط هندسي أصيل، فضلا عما شهدته الفضاءات التي كانت فارغة من بروز لبناء حديث دون مراعاة لِما ينبغي من ضابطة تعميرية مناسبة.

 

على هذا الايقاع الترابي الذي طبع نسيج تازة العتيق، فقدت المدينة أهم أنشطتها الاقتصادية، فضلا عن وظائف أصيلة اجتماعية ثقافية، وكذا سياحية، وهو ما استدعى بعض الالتفات والدراسة والبادرة الجمعوية، من أجل استرجاع ما كانت عليه المدينة من دور رئيسي، عبر حفظ موقعها وفعلها من خلال فعل ما، إداري مثلا، مع تقوية هذا الدور عبر برامج ومشاريع تخص مصالح إدارية إقليمية بها، فضلا عن تفكير في إحياء ما كانت عليه تازة العتيقة من دور ثقافي من خلال مدارس عتيقة كما هو حال المدرسة “المرينية” بالمشور، وما يمكن أن تسهم به هذه المعلمة الأثرية المتفردة تجاه ما هو سياحي محلي، كمتحف رافع إسوة بما اعتمدته حواضر مغربية عتيقة أخرى، وهو سياق ما تحدث عنه ملتقى تازة الأول حول ما ينبغي من تنمية للوظيفة السياحية الثقافية الترفيهية الترويحية للمدينة، عبر ما يجب من ترميم واستثمار لمآثرها التاريخية من أسوار وأبراج وقلاع، وتهيئة لفضاءات مجاورة، وما هناك من أراضي عارية، ناهيك عما تحتاجه أنشطة المدينة التقليدية من إعادة هيكلة لأسواقها وفضاءاتها التجارية، وكذا تحفيز الاستثمار فيما تحتويه المدينة من موارد دفينة، إضافة لِما هنالك من حاجة لترميم بنايات هشة ومساكن وفق انسجام تام مع النموذج المغربي المحلي الأصيل.

 

وقد توجه ملتقى تازة الأول حول المدينة العتيقة ضمن محور ثان لِما هو جامع بين اعتبار ووثائق تعمير ودراسات معمارية، ذلك أن مداخلات بعض الباحثين أفادت أن موضوع المحافظة وردِّ الاعتبار للمدينة العتيقة هو موضوع إجماع باعتبارها إرثا وطنيا؛ وأن ما هناك من تصور للحماية يتجاوز ترميم البنايات إلى ما هو ورش عمل ومشروع ببعد ثقافي اجتماعي اقتصادي وبيئي، يروم جعل المدينة العتيقة نسقا بأدوات تدخل علمي ممنهج لفهم ما هناك من نسيج عتيق حي ومعقد؛ وأن عملية إعادة الاعتبار للمدينة العتيقة يقوم على ما هو شامل يخص التجهيز واعادة تأهيل النسيج الحضري من جديد، وما هو صيانة وتحسين من أجل ضمان استمرارية عمليات ترميم وإعادة اعتبار، فضلا عن إنجاز دراسات عامة تستهدف وضع إطار يمكن من خلاله تقييم واقع حال.

 

ولعل من الإشارات التي طبعت ملتقى تازة الأول للمدينة العتيقة قبل حوالي ربع قرن، كون حفظ المدينة العتيقة ليس بالأمر السهل، بل يعتبر تحديا كبيرا يقتضي إمكانات لجعله إنجازا على أرض الواقع.

هكذا تحدثت رؤية هذا الموعد حول تازة العتيقة وسبل تكييف عمل حمايتها لجعل ماضيها بنوع من الاستمرارية لصناعة أفق غد، من خلال استثمار تراث لسد بعض حاجيات الحاضر والمستقبل وجعل المدينة مجالا حيا مندمجا ضمن ثقافة وتلاقح، ونذكر ممن أطر ما هو علمي في هذا اللقاء، هناك “مبروك الصغير”، الأستاذ الباحث بالمعهد الوطني للآثار، ثم “محمد بلفقيه” و”عبد اللطيف فضل الله”، وهما أستاذان باحثان بجامعة محمد الخامس بالرباط آنذاك، وغيرهم، عن عالم التاريخ والتراث والهندسة المعمارية؛ بل أن ما هو جميل وغير مسبوق في تاريخ الأنشطة الثقافية والعلمية بالمدينة، كون ملتقى تازة الأول هذا توزع على ورشات اشتغال تقاسمتها ملفات وقضايا الشؤون الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بالمدينة العتيقة، وكذا مسألة التعمير والمجال العتيق، فضلا عن المعمار والمدينة الأصيلة، إضافة إلى قضية المدينة العتيقة ورهان الاشعاع التراثي الرمزي، ثم فرقاء الإنقاذ وآليات التدخل.

هكذا بلورت ورشات هذا الموعد الأول والأخير للأسف جملة توصيات بقدر كبير من الأهمية، منها ما تم استثماره وأخذه بعين العناية فيما شهدته تازة العتيقة من تدخل خلال السنوات الأخيرة. 

 

يبقى من المفيد الإشارة الى ما انتهى اليه تقرير هذا الملتقى الختامي، خاصة ما تعلق منه بجرد مخطوطات ووثائق خزانة جامع تازة الأعظم، والمدرسة المرينية، مع تفكير في آلية ناجعة لحفظ إرث إنساني لامادي تزخر به المدينة، وكذا إحداث متحف يليق بعظمة المدينة وتاريخها وأعلامها والذي من شأنه جمع ما هناك من تحف محلية أثرية وثقافية وغيرها، مع استغلال ما هناك من فضاءات أثرية رمزية مناسبة لهذا الغرض وخاصة منها المدرسة المرينية بمشور المدينة، فضلا عما ورد في تقرير هذا الملتقى الذي تم توجيهه لعدة جهات رسمية، من إشارة تخص تحفيز ما ينبغي من بحث وباحثين صوب تاريخ وتراث المدينة وأعلامها، فضلا عن إحياء ما كان عليه جامع تازة الأعظم ومدارس المدينة الدينية من دور وظيفي إشعاعي.

ولم تغب فضاءات ما هو تجاري عن هذا التقرير لإذكاء ما ينبغي من ترميم وتسقيف وجذب، بل أن من جملة ما تم الحديث عنه أيضا، أهمية إحياء ما تلاشى من حرف تقليدية من خلال إحداث معاهد لتكوين التقنيين، وأهمية توجيه العناية لأرشيف المدينة ووثائقها التاريخية بتعاون مع مركز التوثيق الوطني آنذاك. 

 

هذا بعض فقط حول ملتقى تازة الأول حول المدينة العتيقة، وحول فعل وتفاعل مجتمع تازة المدني ممثلا في جمعية انقاذ المدينة العتيقة، وحول ما تم تسطيره من رأي ومقترح ومخرجات ضمن تقرير لا شك أنه لا يزال شاهدا في رفوف عدد من المؤسسات، لإعادة توجيه حال وأحوال تازة العتيقة قبل حوالي ربع قرن.  

 

مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث        

التعليقات مغلقة.