“السوسدي” مسار تألق وبناء الإنسان بالفن ومن خلال الفن الرفيع السامي

التألق والإبداع متلازمتان لا انفصام بينها، فلا يمكن أن نتحدث عن تألق بلا إبداع، في الفن كما في الحياة، لأن التألق هو عنوان لمسار من الغطس للبحث في سراديب الإمكان ليصبح متحققا في مجال الفن، ولن يتحقق هذا التلازم بلا تفجير للمكنون الداخل في ثنايا القريحة المتوهجة، بحثا عن القيم منها الدائم، وليس الفن العابر الذي قد يحقق أرقاما ولكنه يموت بمجرد انبلاج نور الحقيقة والصباح، هكذا يمكن أن نقف وقفة تأمل نقدي وفني ونحن نقتحم الغرف الوهاجة لتجربة مشاهبية غنية بالعطاء، يانعة بالأصول المثمرة الغزيرة التي ترسخت وأنزلت قواعد سموها وعطائها وتألقها من خلال مسار معلم أدى كل شيء للفن، ربما لم ينصفه الفن ولم يحقق له الربح المادي، ولكن حقق لنفسه بالفن ومن خلال الفن وجودا مغروسا في الذاكرة الجماعية كتجربة متميزة منفتحة على كل أدوات الإبداع والفن والعطاء الغزير، مستلهمة التراث كمدخل للبناء، ولعل أدرب الحي المحمدي، وتحديدا “دار الشباب” بالحي المحمدي كانت شاهدة على تفتح وردة يانعة فياحة اسمها “السوسدي” وعنوانها مسار متصل ولكن منفتح ومعطاء في فناء الأغنية المجموعاتية، ولعل “الجودة كمجموعة تعرف مفاتيح “السوسدي” وقوته التي لا تقهر، في جعل الفن خادما للمجمع كما للإنسان، ربما تكون البدايات من الأغنية الهندية كامتداد لعمق أصول الفن الإنسي، والإيمان بأن قوة العطاء في المزج بين الثقافات لإنجاز التحول المطلوب في عملية البناء التي يحددها العلماء في عملتي البناء والانبناء.

يوما ما حينما سئل “مارسيل خليفة” عن الفن وقوته وحضوره في وسط زحام الابتذال والسقوط الفني والانحدار في الدوق، قال إن قوة الفن تكمن فيه هو كفن، أي في قدرته على الإبداع والسمو في بحر النبش عن الجديد المتأصل ليستطيع هذا الفن أن يفرض نفسه بقوته كفن على معسكر الأعداء، هنا تكمن قوة التجربة التي نحن بصدد تناولها بالدراسة والتحليل كتجربة متميزة في تاريخ الفن المغربي، وهنا يحضر الشعبي المتأصل والدوق الفني العميق، وقوة اختراق الجامد في اللحن كما في الأداء، وجعل الإيقاع السامي المتنوع خادما للبناء الفني في شموليته، على مستوى الإيقاع والتوزيع لتحقيق سمفونية متجانسة متقدة حياة.

 

لقد استلهمت تجربة “السوسدي” الحي وحركيته في إطار الجماعة والعلاقات المتأصلة بين أدربه لتحقيق اندماج البدايات عبر بوابة دار الشباب بالحي المحمدي، لتنتقل الشعلة المتقدة والمتوهجة من فناء الحي ورموزه وعلاماته النابغة في كل المجالات، وليكون تأثير البدايات المدخل للكينونة في الذات المبدعة ليتحقق الإبداع في أسمى معانيه، والتي تلقتها بالموهبة وتجربة البدايات مع إنشاد الأغاني الهندية، لتتفجر عبر هاته التجربة الموهبة وتصقل لاحقا في فناء تجربة “مجموعة أهل الجودة” كمحطة أولى للإقلاع الفني، ومجموعة “الدقة” التي غدت المشروع واحتضنته بقوة من خلال علاماتها السامية المعطاء رفقة “الشادلي مبارك” و”المعلم كينية” المعروف بطابع الكناوي، لتحل أنهار جنوب الصحراء وتتوحد من مالي إلى السنغال وجامع الفنا بمراكش إلى شكل تراثي غدى نهم “السوسدي” للبحث والتنقيب والإبداع من خلال المزج بين كل المتلازمات الفنية المطلوبة لتأسيس التنوع والتعدد لبناء الوحدة التي لا تعني إلا القدرة والقوة على الاستنباط من جرعات التاريخ الإفريقي الكناوي الممتد لنسج طريق البناء الفني الذي تتوحد فيه، ومن خلاله كافة الأدوات لتعطينا في النهاية روائع من قبيلسيدي جابر” و”بنات الدوار”.

 

 

هذا العطاء المتقد اتسع لكي لا يتوقف ويتجاوز تجربة الغناء إلى مجال المسرح، وخاصة “مسرح الطيب الصديقي” القريب من روح التجربة والمهووس بتأسيس صور الجماعة من خلال مسرح احتفالي يجعل من النغم والحلقة والسوق والموسيقى في سمفونية احتفالية يغذيها الموال لبناء نص متكامل تتداخل فيها كل العناصر الجمالية لبناء معلمة فنية رائعة احتضنت تجارب هامة وطاقات أفرزتها أدرب “الحي المحمدي” و”درب مولاي شريف”….، ومن خلالها المشاركة في برنامج الوقت الثالث الذي حصل على الجائزة الأولى على الجائزة الأولى.

 

 

وتتوالى الولادة والتألق وتزهر بساتين العطاء بقوة الرجال الأشداء الذين آمنوا بأن الفن رسالة قبل أن تكون دخلا ماديا، قيمة روحية وإنسانية تنقل الواقع في تلازمية معه لإيجاد وصال ممتد للأفئدة عبر تلاوين وتنوع الآلات المستعملة في عملية ولادة السمفونية الفنية التي أينعت عطاء ساحرا لا زال خالدا إلى اليوم، متنوعا ولكن أيضا ذا حمولة ودلالة وعمق لا يمكن بأي حال من الحال أن ينقطع أو يموت، تشهد على تفاصيله “دار البريهي” التي احتضنت الميلاد وساندته لتحقق وجودا ويتألق عبر كافة أعضاء المجموعة وخاصة “محمد السوسدي”، والعطاء لا يتوقف من خلال أعمال فنية رائعة وخالدة من قبيل “بغيت بلادي”، “طول عمري”، “وعدي يا وعدي”، “طالت بيت ليام”، “دويني”، “المضيوم”، “حمودة”، “الليل”، “الحرمة“……

 

 

من خلال هاته التجربة وهاته الهامات الفذة في تاريخ الأغنية المجموعاتية المغربية نقف حول الوجود الإنساني كقيمة أنثربولوجية وإنسية ارتبطت بقوة هاجس النهاية؛ وهو المسار والمسير الذي يدمي القلب أن يتم قتل هذا الموروث الرائع والحاضر في قلوب وعقول أجيال وأجيال، لكنه تعرض لعدم اعتراف بالجميل من المؤسسات الثقافية والإعلامية التي وارته الثرى في عز نضجه وتألقه وعطائه، في موقف كما يراه “جلجامش” بأكل نبتة الحياة التي حولها السلوك المؤسساتي إلى “أوديب” المقتول بمرآته وانعكاس قيم جماله، أو بالفعل الإنساني باعتبار أن المؤسسات جزء من تركيبة وثقافة تقتل وتحيي وفق قواعد انحدرت لمستوى أن الأدب والفن الراقي ووري ثرى الإهمال والقتل مع سبق الإصرار والترصد، ولكن مهما كانت قوة حضور آلة تذمير قيم الجمال إلا أنها تبقى عاجزة عن تحقيق الهزيمة بالفن الراقي لأن الأمر كما عند أفلاطون يتعلق بانتصار المثال عـلى الشبح، و الفكرة على المادة، والخير على الشر…الخ.

وعلى الرغم من كل هاته القيم القاتلة للدوق وللفن وللحياة، فإن الأغنية المجموعات استطاعت بفعل رجالات حملوا مشعل الاستمرارية وركبوا أمواج التحدي الموصل للحياة رغما عن كل العواصف، لقد شكل ” السوسدي” علامة إشراق ونور وومضة أمل في ليل مآسينا وانهيار كل جميل فينا لفائدة الغد الحالم والباني للمستقبل الذي جسده اللاحقون رغم مرارة فقد الأستاذ الأب والمعلم والصديق الذي كان جامعا لكل القيم، وهو ما أعطى الحياة للمجموعة ضمن عطائها وتوحدها إلى مستوى ترك الخلف الذي حمل المشعل، والذي قدر الروح المانحة للحياة فأعطى للجديد في عالم “المشاهب”، كاسم يربط بين التجربة المشاهبية والاعتراف بالأب المعلم في تجربة “أبنا السوسدي”، اعترافا بسمو كل شيء مرتبط ب “السوسدي” من تميز صوته البلبل الجميل وطبقته الصوتية العالية، التي منحته القوة للعب على كل أنواع المقامات والأوزان فكان كتجربة ضابطة لكل الإيقاعات ليصدح ببلبلية الصوت وعطاء الأشعار وقوة اللحن في فضاء العشق المتصل دوما بلا انفصام عرفانا بهاته الهامة الفنية الفيحاء.

 

 

لقد غرس هذا الحضور الوهاج تجربة متفردة لمجموعة أعطت الكثير دون أن تحظى بما تستحقه كتجربة غنية عانقت مختلف الأحلام وأوفت بالعطاء، فكانت بحق نهرا فنيا غزيرا معطاء حرك أفئدة أحلام العديد من جيل السبعينات والثمانينات، وأوفوا بأن تركوا الخلف الفني الذي لا زال صامدا يصارع طغيان الزمن وتبدل المكان الجامع “الحي المحمدي” إلى مستوى الانعزالية في المكان التي أفرزت سقوطا مدويا في مستوى الدوق الفني، وانهيارا للقيم التي طالما صرخ “السوسدي” ورفاقه من أجل الرقي بها وجعلها قاعدة لبناء الإنسان وإحيائه في الداخل المشتت المغيب بثقافة وفنون المسخ والعري وتلازمية العري وإظهار المفاتن بدل إظهار الدواخل والعمق الفني الشادي الباني لقيم الجمال الروحي والسمو الداخلي، التي غرسها “السوسدي” ورفاقه وذادوا عنها كلمة ونغما وصوتا.

وهو ما مكن من احتلال المجموعة وبالضبط “السوسدي” المحبة الكبرى في قلوب من عرفوه وساكنة “الحي المحمدي” وعند الجمهور المغربي، وهذا لم يأت من فراغ بل من عمل كبير وشاق وبحث مضن وهو ما مكن “السوسدي” من حصد العديد من الاعترافات ضمنها جائزة أحسن صوت بمهرجان الشباب الذي أقيم بالاتحاد السوفياتي سابقا.

ولم يتميز في حياته بالانغلاقية، أو جعل الموسيقى حكرا له وللذين عاشروه بل فتح فناء المجموعة لكل الطاقات القادرة على الإبداع والعطاء في اجتماعية وإنسانية قل نظيرها في زماننا الأغبر والأرعن الذي أصبحت فيه القيم سلوكا يحدد بما تملكه من رأسمال مصرفي، بدل الرأسمال القوي عطاء وحضورا من خلال الفن الراقي وقوة الحضور الداخلي الذي ينعكس على مستوى الإصدار، وهنا تستوقفني قولة سقراط للمتعجرف المغرورة بقوة ماله، حينما قال لسقراط لماذا لم تقف في حضرتي، ألم ترني؟ وكان يعرفه، فأجابه سقراط بحكمة، تكلم لأراك!!!،

 

ومن هذا المنطلق فتح المرحوم “السوسدي” باب المجموعة على مصراعيه للعطاء مؤمنا بفكرة ادخال شباب إلى مجموعة “المشاهب”، وفي هذا الإطار تم التحاق “المهدي” سنة 2006 و”حمزة” سنة 2010.

 

 

هكذا نكون قد توقفنا بعجالة حول هامة فنية من اللازم على المختصين في المجال الفني، وخاصة المجموعاتي منه أن يولوها حقها إنصافا لهاته الهامة الفنية واعترافا بالقيمة الفنية لمجموعة “المشاهب” في سماء الأغنية المغربية الذي مسارا طويلا عبر مسار طويل من الإبداع بلا كلل ولا تهاون وبعمق إنساني كبير، خلق التوحد بين كافة عناصرها والانفتاح على زهور المستقبل وبناء الأسرة الفنية التي واكبت المسير/المسار، وهي موضوع حلقتنا المقبلة بإذن الله تعالى.

يتبع………………………………………………………………………. 

 

الدار البيضاء: حسنية

 

مجموعة “أولاد سوسدي المشاهب” امتداد للأغنية “المشاهبية” وقوة المكان “الحي المحمدي” وإبداع عال لمجموعة قررت فوفت ونجحت

التعليقات مغلقة.