رقصة “تَشْكَلَّل” الجبلية بتازة تراث لا مادي وطني ببعد إنساني كوني

عبد السلام انويكًة 

ما يطبع المغرب من إيقاع تراثي شعبي بدوي، ومن زخم تعبير فني وأنماط فرجة، على أساس ما لا يزال محفوظا ممتدا في الذاكرة كأرشيف لامادي، لا شك أنه واسع ومتنوع ونتاج تاريخ ممتد بحكم موقع البلاد، وهذا أمر مهم في علاقته بإرثها الثقافي الإنساني، وبحكم أيضا طبيعة تفاعلها وتأثيثها لذاته الثقافية الانتروبولوجية منذ القدم.

ولعل بقدر ما يزال مخزون تراث المغرب الفني البدوي الجبلي هذا بجاجة لمزيد من العناية والتثمين والالتفات من أجل تشخيصه ورسم مسارات تطوراته وتغيراته عبر الزمن، بقدر ما يقتضي مزيدا من الانفتاح البحثي من أجل نصوص ودراسات شافية في أفق كونية هذا الارث الفرجوي البدوي باعتباره إرثا حضاريا إنسانيا

وخلافا لِما قد يعتقد من هم بانبهار وحديث عما هناك من ابداع وتدفق تعبير فني ذو إفراز تقني رقمي تكنولوجي عولمي، ليست اثارة ما هو بدوي وجبلي من بوح وتراث اصيل وذاكرة تدخل في خانة هدر جهد، بل مساحة بقدر كبير من الأهمية والقيمة المضافة لجعل فنون المغرب الشعبية البدوية، بما ينبغي من إبراز ووعي وسلطة تعبيرية انسانية كونية.

هذا دون تقديس لماض طبعا، وعياً بما هناك من أهمية في تلمس لخصوصية من شأنها تحقيق تنوع وغنى فضلا عن حوار ثقافي حضاري، وكم هو جميل استدامة ما هو خاص ببصمات ونمط تعبير متباين في معناه ومحتواه وصداه عبر الزمن.

ومثلما لا يزال قائماً لا تخلو مشاهد رقص بدوي ومن ثمة فرجة قبيلة وزمن المغرب زمن قبائل كما غير خاف لدى باحثين مؤرخين، من أهمية تعبير فني ثقافي وفق توزع مجالي، كان قد تحدث عنه “هنري باسي” في عشرينات القرن الماضي مشيراً الى أن في ترفيه قبائل المغرب ليس هناك سوى تعبير جماعة، بنوع من تماثل وتوحد رغم ما هي عليه من تباين.

من هنا ما يمكن أن نقف عليه ونتأمله من مشترك في إرث فني بدوي لا مادي مغربي، رغم ما يسجل من اختلافات وتعبيرات وتفرعات ذات علاقة بما هو محلي.

ولا شك أن ما هي عليه البلاد من تنوع مجالي لغوي هو بأثر في تنوع ما هناك من تعبير يستمد صوره من ثقافة أدب شفاهي، من قبيل ما هناك من زجل وغناء وعادات وتفاعلات بمكونات ذاكرة محلية.

وبقدر ما يشكل تراث المغرب البدوي جانباً حياً من كيان مجتمع، بقدر ما يعد وعاء جامعا لإبداعات وأنماط تراكمت عبر قرون. وهو ما جعله مجالا خصباً جديراً بإنصات في أفق ما يمكن أن يسهم به لفائدة ما هو ثقافي حديث، عبر ما يمكن أن يستمد منه من طاقة وقوة خدمة إنسانية أرحب.

ولعل ما تزخر به بوادي المغرب من إرث فني واسع، دليل على ما طبع ماضيه من أنماط عيش وثقافة، بحاجة لاستكشاف وحماية واستثمار، وفق ما ينبغي من مقاربة واستشراف بعيداً عن أي أحكام قيمة تجاه تراث هو نِتاج انسانية وهويات وتميزات وثقافات.

ولا شك أن ما هناك من متغيرات تجعل تراث المغرب بحاجة لتأمل أكثر، ليس فقط تجاه ما يجب من حماية وتوثيق وأرشفة بل لتجاوز رؤية ضيقة كثيراً ما تحصره أهميته وقيمته ورمزيته في غناء ورقص ومواعيد وتقاليد وبيئات وبهرجة وتسطيح، عوض ما ينبغي من نظر له ككيان وهوية وتجلي ثقافي وموارد حضارة.

ولعل مساءلة تراث البلاد الفني البدوي ينطوي على تشعبات بمستويات عدة، تجمع بين دلالات وممارسات وتوطين وتحولات وغيرها. بحيث بقدر ما يحتويه هذا الإرث وما يسهم به على مستوى إبراز ما هو خاص محلي من وجود وتطور، بقدر ما يكشف عما هو جوهري يخص تحقيق الأفضل عبره لفائدة انسان وتنمية وعيش مشترك وتلاقح. ولعل تراث المغرب هو شواهد على تفاعل خلف بسلف، فضلاً عما هو عليه من ذخيرة رافعة في أفق ما ينبغي من ورش واستثمار.

 

اشارات ارتأينا أنها ذات أهمية من أجل ورقة تخص ما يحتويه مجال مقدمة جبال الريف من تراث بدوي بقدم وأصول نشأة، تحديداً منه ما يعرف في الذاكرة المحلية على مستوى المجال التابع لإقليم تازة من جهة الشمال ب: “رقصة تَشْكلل” أو “رقصة البرانس” بمجال قبيلة “البرانس” خاصة الجزء الغربي منه، باعتباره المجال الغني من ترابها ليس فقط بيئياً بل ثقافيا بالنظر لما يزخر به من صور تعبير ثقافي وتفاعل وشواهد. 

و”تشكلل” بهذه التسمية التي تحضر في الذاكرة الشعبية المحلية، هو رقصة بدوية وتعبير شعبي محلي يطبعه تفرد ايقاع معمر عبر قرون ببادية مقدمة الريف، بل “تشكلل” أيضاً هو توصيف أكثر تردداً لدى العامة من متلقين وتوصيف أعلام هذه الفرجة الجبلية كما بالنسبة للمقدم “بوجمعة الحداد”، رحمه الله، والمقدم “معاشو” وغيرهم.

رقصة بدوية يفضل البعض تسميتها أيضاً برقصة المقص، لِما لهذه الأداة المعتمدة فيها من صدى موجه ضابط لنسق توهج وتوزع ايقاع، بل أن هناك من يفضل تسميتها برقصة “الطايفة” لِما يعتقد من علاقة بموقع نشأة غير بعيد عن “واد لحضر” في تماس مع قبيلة التسول.

ورقصة “تشكلل” هذه جنس فني شفاهي بدوي وفق تعبير ولغة وجسد ونسق وإرث خاص، يتقاسمه إيقاع ونغم ولحظات وقول وعفوية زجل.

ولعل ما هي عليه هذه الرقصة من وقع وفرجة وتمثلات يجعلها بعشق واعتبار وجذب وأريحية، رغم كل هذا الزخم من الحداثة والسرعة والرقمنة ومن تدفق صور وأنماط تعبير وغيرها.

ورقصة “تشكلل” نسق فني بدوي يتقاسمه نغم ومثن فضلاً عن بنية أداء وترتيب وتداول وقانون لعبة، بقدر ما تقوم على تجليات قبيلة وذاكرة وذهنية وهوية بقدر ما تعد لوناً ثقافياً يدخل ضمن أقدم ألوان فلكلور البلاد وأشدها أصالة.

رقصة ذكورية بنظم وتلقائية ومقامات ووضعيات، كذا زجل بدوي وراقصين واشارات وأدوار وقدرة تدافع، إنما عبر مرسوم مقام ورسومات مقدم سيد حفل واحتفال وفرجة وسلطة، على ايقاع تقليدي لكل مصدر فيه حكاية واثارة ووقع مؤثث لرقصة البرانس، القبيلة التي بدأ اسمها يتردد بين صفحات الكتب ويتداول بعد الفتح الإسلامي لبلاد المغرب، لدرجة أن أصل اسم “البرانس” غير معروف، علما أن هناك من يقول بابتكاره من قِبل المسلمين لما أطلقوا اسم البتر على قبائل أمازيغية كان أبناءها يرتدون لباساً قصيراً مبتوراً، ثم اسم “برانس” على أبناء قبائل كانوا يرتدون لباساً شهيراً بالبرنس.

وقد يكون اسم “البرانس” مشتق من كلمة يونانية “Baranos”،ومعروف أنالبرانس” قبائل حصرهابن خلدون” في عشر كتل هيازداجة وأوريغة وصنهاجة وعجيسة وكتامة وكزولة ولمطة ومصمودة وهسكورة ثم أوربة التي لا تزال بموقع شمال تازة”.

وإذا كانت رقصة “تشكلل” لسان حال فرجة قبيلة البرانس بتازة التي يعتقد أنها بأصول أمازيغية، فهي أيضاً أدب شعبي بدوي ونسيج تعبير وعرض فولكلوي بفقرات مترابطة بعضها ببعض، وهي أيضا بيئة حاضنة وتاريخ وانسان ووجدان وأصول وثوابت وقدم وموطن وهوية، فضلاً عما يحتويه هذا التعبير البدوي من صدق صور ونسق ونص شفاهي ومخيال. 

حيث غنى معاني وبلاغة تعبير عبر زجل يحضره مجد وأمجاد قبيلة، الى جانب ما هناك من دروب حياة وفصل وإنتاج وتقاليد وعادات وغيرها، وهو ما ينقله لسان حال راقص وفرجة جامعة بين عفوية قول وإشارت ونسيج معاني.

وبقدر ما لرقصة “تشكلل” آلات موسيقية عتيقة تجمع بين دفوف و”تعريجة” ومقص و”غيطة” مؤثثةلفرجة، فضلاً عما يميز راقصين من لباس تقليدي يجمع بينفوقية” بيضاء و“عمامة” بتطريز خاص ولون أصفر إضافة إلى أحزمة حمراء ولباس خفيف شفاف.

بقدر ما للرقصة من بناء هندسي يقوم على جمع واحد متكامل في حوالي العشرة أفراد، بعدما كانت تقوم على مجموعتين متقابلتين في الماضي من خلال صفين متقابلين مستقيمين، مع أهمية الإشارة، لِما لعنصر الاختلاف بين المجموعتين من أثر في وقع رقصة وارتقاء بأداء وتفاعل وتدافع من خلال سمو وصف واثارة وإقناع ثم غلبة رمزية وفرجة.

ليبقى جوهر ما كان يجمع بين المجموعتين في الماضي وفي مجموعة واحدة حالياً، هو ما يتداول من خطاب تعبيري بدوي يعرف محلياً في ثقافة الرقصة ب “الزريع” وسابقا ب “الريح”.

خطاب بقدر ما يكون دوماً على درجة من الإثارة وحبك القصة والاشارات والتتبع والانصات، بقدر ما يتم بناؤه وفق تحرير حرفي بكلمات منتقاة فضلاً عما هناك من ارتجال ودقة تلوين ولحن وإبلاغ وقصد.

 

ولعل رقصة “تشكلل” هي بحركة جسد طيلة لحظة الحفل أولاً، ثم حركة مجموعة ككل ثانياً إلى الأمام لعدة مرات من خلال خطوات منسجمة ودقيقة قبل العودة إلى نقطة انطلاق؛ لينضاف لكل هذا وذاك كفقرات فرجة فاصلة، ما يسجل من بهلوانيات أحادية ثم ثنائية لراقصين يرومان اثارة تحكم في لعبة، وإبراز مهارة في عزف على دفوف ضمن وضعيات جاذبة ومؤثرة، قبل لحظة لاحقة كثيراً ما يطبعها تصاعد إيقاع متناغم متقاطع يجعل الحفل بروح فرجة خاصة.

مع أهمية الاشارة الى أن الرقصة أيضاً كثيراً ما يحضرها ارتجاف كتف راقصين، مع اندفاع واقدام لهم بحسب وضعيات مرة إلى الأمام مع رفع الأرجل قبل عودة الى الوراء الى حين ما يعرف بقرار الرقصة، وهو ما يخضع ترتيبه لمقدم يتملك خبرة وشجاعة أدبية.

ويبقى لِبحَّات الراقصين على تباين مقامهم ولصوت وبَحَّة راقص واحد كلما دعت لحظة الرقصة، أثره في تميز حفل وتفاعل متلقي وفرجة جماعة.

كل ذلك في علاقة بخطاب “زريع” من لحظة لأخرى بحسب دفئ الحفل، بحث بقدر دقة معاني”الزريع” وإشاراته ومقاصده بقدر ما يكون تثمينه وتحفيزه وتعزيزه عبر زغاريد نساء برحاب جَمعٍ.

بعض فقط من كل يخص رقصة بدوية لا تزال تسكن مقدمة جبال الريف هناك على مشارف “تازة” وأعالي “ايناون” حيث قبيلة “البرانس”، رقصة برمزية ضاربة في عمق حضارة مغربية شعبية شفاهية، كثيراً ما تجعل من تاريخ قبيلة “البرانس” بيئة انسانية، ومن نمط عيشها وقوداً لنصوصها وفقراتها وحكوياتها وبهلوانيتها وتعبيرها وفرجتها. 

ووعياً بكون رقصة “تشكلل” ببادية تازة هي بقوة ونَفَس رافع لإبداع حاضر ومستقبل يثري ولا ينضب، وحتى لا يطوى هذا الإرث الرمزي البدوي النسيان فضلا عما قد يلحقه من تشويه ومن ثمة تسطيحه وإفقاده أصالته، بات من المهم حفظه وأرشفته وحمايته باعتباره ذاكرة وتاريخا. 

 

مع أهمية الاشارة الى أنه رغم ما للتقنيات الحديثة التعبيرية الفنية من جوانب ايجابية عدة، قد تكون بنوع من الخطر على رمزية هذا الإرث الإنساني المحلي بافتقاده وصفته وقيمته وهيبته واصالته، وبالتالي تهجيره والهجرة منه وضياعه.

 

ورغم ما يسجل من وعي وجهد في حماية تراث البلاد الشفاهي وفرجة بواديها، فإنه ومن خلال نظرة خاطفة على ما لا يزال قائماً من عناصر أصالة يتبين أن مكونات عدة باتت تحتضر، شأنه في ذلك شأن أثاث كثير انساني بدوي من سكن وحرف وأنماط حياة وعيش وتعبير وغيره.

ولعل الحديث عن حماية تراث البادية المغربية الرمزي كما بالنسبة لفرجة ورقصة “تشكلل“، يدفعنا للسؤال حول طبيعة هذه الحماية، وهل للمسألة علاقة بشكل ما محدد في الرقصة مثلاً؛ وفي هذه الحالة على أي أساس يتم تحديد شكل من أشكالها؟ هل القدم أم درجة انتشار وارتباط بزمن ومكان وجماعة ما؟.

وعليه، لا بد من تحقيق دقيق وتوازن بين أصالة العنصر التراثي وحركيته في الزمن، وفي تغيراته وقدرته على تفاعل يكون وراء ما يحدث من تعديل في شكل ومحتوى ووظيفة وامتداد وقيمة، علماً أن من جملة ما يقتضيه حفظ هذا اللون من تراث بلادنا، درجة الاطلاع على ما هناك من شواهد لم تعد جارية وهو ما قد نجده في أقوال اخباريين ورواية شفوية وغيرها.

ولا شك أن تراث المغرب الفني البدوي الجبلي كما رقصة “تشكلل” بمنطقة “تازة”، هو جزء من تاريخ مكان وذاكرة وانسان وثقافة وقبيلة، وكل حماية له ينبغي أن تقوم على كل ما يمكن الوقوف عليه من آثار ومعالم عبر مراحل مضت.

وشتان بين عناصر تراث رمزي لا تزال حية متداولة يتم الحديث عن حمايتها وإنقاذها، وبين ما كان قائماً منها واختفى في زمن ما إن جزئياً أو كلياً، وفي هذه الحالة بقدر ما عمل الحماية والحفظ بحاجة لوثائق وشواهد وأبحاث، بقدر ما قد تكون عناصر هذا التراث اختفت بشكلها الأصيل، وقد تنبعث ضمن أسلوب جديد إما قريب أو بعيد الصلة بالأصول. 

إن حماية تراث المغرب البدوي يحتاج لجملة سبل منها جمع عناصره جمعاً علمياً منظماً بواسطة مختصين، كذا الاجتهاد من اجل ما ينبغي من اطلاع وتجريب وتسجيل وتصنيف، بل لابد من بنية علمية تجمع بين مراكز حفظ وتقديم خدمات وأقسام تراث فني بدوي بمتاحف ولِما لا متاحف خاصة بهذا الارث الانساني.

وقد باتت حماية تراث البلاد قضية بأهمية كبرى في زمن تدفق قيم، وعندما نتحدث عن حماية تراثنا البدوي الشعبي معناه الجمع والتوثيق والحفظ مع وقف نهبه وتشويهه.

ولعل تراث باديتنا الفرجوي كأرشيف رمزي لامادي، يقتضي قاعدة بيانات فضلاً عن أطر متخصصة وانتقاء آليات تعامل، فمن شأن أرشيف هذا التراث تحقيق حماية وصيانة على نحو علمي أكثر تنظيماً وتدقيقاً، هكذا تبقى بادية مقدمة جبال الريف حيث “تازة”، وحيث قبيلة “البرانس”، مجالا بتنوع وغنى فني تراثي شعبي بحاجة لتثمين وحفظ واعتبار، عبر ما ينبغي من تعريف ودراسة ودمج واحتفاء هادف، وعبر ما ينبغي أيضا من أفق كونية وانسانية بعيداً عما هو تسطيح وبهرجة ومسخ.

مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث

التعليقات مغلقة.