عبد السلام انويكًة
صقل موهبته وذكاءه الموسيقي وأخذ عن أساتذة موسيقيين مغاربة كبار، غرفوا تكوينهم ومعرفتهم ودرايتهم بدورهم في هذا المجال من أعلام وكفاءات موسيقية عدة متميزة أوربية بكيفية خاصة، ولعل ممن تعلم على يدهم ابن تازة هذا من موسيقيين متملكين لقواعد وأصول الموسيقى كثيرون عن مدن فاس ومكناس والرباط والدار البيضاء وغيرها، نذكر الأستاذ “محمد لشهب” عازف الكمال الكلاسيكي، وما أدراك ما الأستاذ “لشهب” وصرامته العلمية هيبة ونظرة وجدية وانضباطا واخلاقا فنية وتكوينا وتواضعا، وقد تشبع الأخير بروح وأسس تكوين موسيقي غربي عميق عن فترة الحماية بالمغرب.
هكذا جمع صانع مجد المعهد الموسيقي بتازة بين ميول وحس واستعداد ذاتي نفسي وجداني موسيقي مبكر، فضلا عن قناعة مبكرة ايضا بأهمية ما ينبغي من أخذ وفق ما يقتضيه الأمر من معرفة عالمة وأصول وقواعد وتوصيف اكاديمي. وهكذا ايضا انفتح في سن مبكرة وهو لا يزال يتابع دراسته الثانوية تخصص علوم على معهد تازة الموسيقي في سنوات إحداثه الأولى، متشبثا بطلب وفق ضوابط مُحكَّمة، فضلا عن ايمانه بإنسانية ما هو فني نبيل عموما، وما هو رسالة موسيقية في بعدها الكوني ومشتركها الحضاري، فاكتسب ما اكتسب وأبان عن نبوغ موسيقي خاص، ذلك الذي لازم به الدرس والأخذ والتلقي محتكا بأساتذة موسيقيين من طراز تكوين رفيع.
ذلك هو مدير المعهد الموسيقي بتازة سابقا صانع مجد هذه المؤسسة وفترتها الذهبية، عازف الكمان الكلاسيكي المتمكن والأستاذ الموسيقي الأكاديمي حتى النخاع والغني عند أهل تازة عن كل تعريف “عبد اللطيف المزوري”، الذي كان حقا وراء مجد وفترة معهدٍ ذهبية بكل ما في الكلمة من معنى وإحالة، بل وراء جيل موسيقي تازي بأكمله ومعه وقع وموقع وصدى معهد تازة الموسيقي الوطني لفترة معبرة من زمن المدينة الراهن.
فقد اعطى هذا الاسم واعطت هذه الايقونة والكفاءة العلمية المغربية المتميزة الكثير والكثير لشأن تازة الموسيقي لسنوات وسنوات بأخلاق فنية عالية ونكران ذات، إن قبل أو بعد حصوله على شهادته الشرفية العليا للعزف الكلاسيكي على آلة الكمان بداية ثمانينات القرن الماضي، وهي الدرجة الأعلى التي لم يكن يحرز عليها ويبلغ مستواها إلا القليل القليل كما لا يخفى عن أهل الشأن من الموسيقيين الأكاديميين، هذا بعد اجتيازه للمباراة الوطنية بالرباط وما ادراك ما المباراة الوطنية، لِما كان لها من هيبة خاصة وما كان يطبعها من ضبط وصرامة لجنة مشرفة، كثيرا ما كان يتقاسمها كبار الأساتذة الموسيقيين المتخصصين مغاربة وأجانب بقاعة باحنيني التابعة لوزارة الثقافة بالرباط.
ولعل قلة قليلة من طلبة المعاهد الموسيقية الوطنية المغربية قبل حوالي ثلاثة عقود من الزمن، ممن كانوا يجتازون هذه المباراة بنجاح، لشدة ما كانت عليه من معايير دقيقة وكلفة جهد وإعداد وحزم وضوابط وغيرها. هذا قبل أن يتوقف اعتماد منهجية المباراة الوطنية وتعويضها بمباراة جهوية خلال السنوات الأخيرة، وقد افقد هذا الاجراء جوانب عدة من قيمة ومصداقية ما يسلم من شواهد هنا وهناك، وهذا موضوع الحديث فيه ذو شجون سنعود اليه من خلال ورقة خاصة. هكذا كان ايقاع المباريات الوطنية الموسيقية المغربية قبل حوالي ربع قرن، وهكذا كان هذا النهج بدور هام في ما أفرزت المعاهد ومن خلالها وزارة الثقافة من عازفين مغاربة كبار على مستوى كافة الآلات الموسيقية.
مع أهمية الاشارة الى أن الأستاذ المزوري الموسيقي الأكاديمي المتميز، كان عضوا في لجنة المباراة الوطنية هذه تخصص كمان كلاسيكي لسنوات وسنوات، منذ بداية الألفية الجديدة الى غاية إحداث واعتماد المباراة الجهوية كما سبقت الاشارة لذلك خلال السنوات الأخيرة.
وهذا التدبير الذي كانت عليه وزارة الثقافة وقطاع الموسيقى والمعاهد الوطنية منذ تقريبا السنوات الأولى للاستقلال ومعه صرامة التكوين الأكاديمي والتقييم، سواء تعلق الأمر هنا بعملية العزف أو الإملاء أو القراءة الموسيقية الفورية بأكثر من مفتاح موسيقي أمام لجان مختصة، هو ما كان وراء ناشئة موسيقية مغربية رفيعة المستوى خلال العقود الماضية، بل هو ايضا ما بلور وصنع جيلا شامخا من الأساتذة الموسيقيين المغاربة في عدد من التخصصات وقد أثثوا المعاهد الموسيقية الوطنية وصنعوا فترتها الذهبية، وكانوا بما كانوا عليه من فضل وأثر واسهام رافع فيما عاشته هذه المعاهد من مجد حقيقي خلال نهاية سبعينات وطيلة ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، وهو ما يبدو أنه افتقد في هذه المعاهد على مستوى جوانب عدة مع الأسف الشديد خلال السنوات الأخيرة.
بل كان هؤلاء ومنهم الأستاذ المزوري بدور في إغناء هذه المعاهد بدماء وخبرات وطاقات وتطلعات جديدة علمية، عوضت من كان يدرس الموسيقى من الأجانب بالمغرب الى جانب قلة من المغاربة، فضلا عن اضافات همت مناهج تدريس وإعداد مقررات موسيقية كانت محدودة جدا لدرجة الندرة.
اضافة لِما كان لهؤلاء من جهد واجتهاد جعلوا به معاهد المغرب الموسيقية الوطنية خلال سبعينات وثمانينات وتسعينات القرن الماضي، بنوع من الأثاث البيداغوجي الرافع فضلا عن هيكلة وبرمجة وتوزيع مواد دراسية وأساليب درس وتكوين وتمرين وتدريب وببيلوغرافيا وغيرها. بل لجيل هذه الفترة الذهبية من أساتذة المعاهد الموسيقية الوطنية، يعود فضل ما طبع الأغنية المغربية من تألق وصدى وعطاء وتميز على عدة مستويات، ولكثير من هذه النخبة المغربية من الموسيقيين بهذه المعاهد الوطنية، يعود فضل اكتشاف مساحة أصوات طربية مغربية عدة تحولت الى نجوم ساطعة لاحقا، وهو ما تذكره وتحفظه الذاكرة بكثير من الفخر والحضن والاعتزاز، وقد اغنت هذه الأصوات الرفيعة المستوى وسايرت وواكبت مجد الأغنية المغربية نصا ولحنا وتعبيرا وعزفا واخلاقا وابداعا ونبوغا، تلك الأغنية التي تشكل حاليا ذاكرة مغرب ومغاربة فنية ذهبية ومرجعية، بل زمنها الجميل عندما كانت هذه الأغنية ترفرف عالية في سماء الكبار وطنيا وعلى الصعيد المغاربي والعربي، ولعله زمن أصوات وطرب ولحن ومدارس موسيقية وعبقرية موسيقيين عازفين مغاربة وعرب كبار.
لهذا الزمن ولهذه الفترة الذهبية في سنواتها الأخيرة الى غاية نهاية تسعينات القرن الماضي، ينتمي مقام الأستاذ المزوري الذي يرجع له فضل بناء جيل من الموسيقيين التازيين المتميزين بشهادة أرشيف واسع، خاصة في مجال العزف على آلة الكمان الكلاسيكي وفق قواعد علمية غربية باعتباره استاذا متخصصا رفيع المستوى في الكمان الكلاسيكي، بل كان ايضا بأثر في الاقبال على تعلم العزف على آلات موسيقية اخرى بحكم مهمته كمدير للمعهد الموسيقي بتازة لسنوات وسنوات. ولعلها فترة ذهبية تكوينية بالمدينة بكل ما تحمله الكلمة من معنى وبشهادة الذاكرة المحلية وبصماتها وما حصل من اسهامات ومجد وعطاء ونجاحات على أكثر من صعيد.
يكفي أنه عندما كان يتقدم طلبة المعهد الموسيقي بتازة لاجتياز المباراة الوطنية بالرباط تخصص كمان، بقدر ما كانوا يبهرون بمستواهم وتميزهم وشجاعتهم الأدبية الفنية، بقدر ما كانوا يثيرون الانتباه لِما كانوا عليه من حسن إعداد واستعداد وضبط وانضباط، فضلا عن مهاراتهم وتقنية تعاملهم مع الآلة الموسيقية؛ بل عندما كان يحضر طلبة بتازة للكمان الكلاسيكي في مباريات وطنية، كثيرا ما كان يحضر معهم صدى واسم الأستاذ عبد اللطيف المزورى، لسمعته وموقعه العلمي الموسيقي. علما أن الأساتذة المغاربة المتميزين المتخصصين في العزف على الكمان الكلاسيكي آنذاك، كانوا محسوبين على رؤوس الأصابع واحدا منهم هو هذا الأخير الذي يحق لتازة الفخر به، ليس لكونه شكل بصمة موسيقية تكوينية متفردة في تاريخ المدينة ومعهده الموسيقي فقط، وقد كانت بصمة بصدى وطني وبفضل في التعريف بالمدينة وابراز مواهبها.
بل لِما أسداه من خدمات وتضحيات واضافات غير خافية عن عارفين بالشأن، ما يصعب القفز عليه ولا عدم الوقوف عليه عند كل حديث عن تاريخ المدينة الموسيقي الحديث، خاصة ما هو تعليم موسيقي أكاديمي وقد أفرز علامات وأسماء عدة لدرجة يمكن معها القول أن أجود وأمهر ما أفرزته تازة من عازفين متميزين على آلة الكمان الكلاسيكي،- علما أن ضوابط وقواعد الموسيقى الغربية العلمية هي أساس كل مدخلات التعبير الأخرى الموسيقية عربية كانت أم غير عربية-، تعود لفترة نهاية ثمانينات وتسعينات القرن الماضي وجلهم طلبة تتلمذوا على يد هذا الأخير بمعهد تازة الموسيقي.
وغير خاف أن الأستاذ المزوري أيقونة معهد تازة الموسيقى وصانع فترته الذهبية، هو مؤثث مجد خاص طبع هذه المؤسسة واشعاعها وتاريخها الحديث عندما تولى إدارتها لسنوات وسنوات، لِما شهدته هذه الفترة من صدى وخريجين وتميز في مباريات وطنية. وهي الفترة التي يعتبرها وينعتها الكثير بزمن تازة الموسيقي الشامخ، بل الزمن الفني الموسيقي التكويني المشرق والذي لا يزال مرجعا لحد الآن. هكذا يسجل للأستاذ المزوري ما كان عليه من قيمة مضافة لفائدة معهد تازة، وما اضافه من تخصصات مستفيدا من علاقاته ومصداقية موقعه. بل ما كان عليه ايضا من دور في استقدام اساتذة متميزين من مدن فاس والرباط وغيرها، لتقديم دروس بمعهد تازة عبر زيارات منتظمة اسبوعية.
لعل منهم فضلا عن الأستاذ المزايتي وغيره من المتميزين، هناك الحاج أحمد الشيكي رحمه الله الذي بقدر ما كان المزوري سببا فيما كان له من ارتباط وثيق وجداني بتازة لعقود من الزمن، بقدر ما يعود لابن فاس هذا وتلميذ الحاج عبد الكريم الرايس فضل ما شهدته الموسيقى الأندلسية بهذه المدينة من اضافة ومعرفة واشعاع.
فقد كان هذا الأخير بدور في حضور تازة الفني الأندلسي بكبريات مهرجانات المغرب، ومنها مهرجان شفشاون وما أدراك ما مهرجان شفشاون، حيث ملتقى الفرق الوطنية الأندلسية العتيدة ومعها علامات وشيوخ هذا الطرب المغربي الأصيل، ناهيك عن طبيعة من كان يؤثث هذا المهرجان من جمهور عاشق حافظ متذوق من كل ربوع البلاد.
هكذا كانت فترة تدبير الأستاذ المزوري للمعهد الموسيقي بتازة كمدير وأستاذ لآلة الكمان الكلاسيكي، وهكذا ما شهدته المدينة موسيقيا من صدى غير مسبوق على أكثر من صعيد، علما أن هذا وذاك من المنجزات ايضا ارتبط وتزامن مع فترة تدبير وادارة الأستاذ والمخرج المسرحي محمد بلهيسي للشأن الثقافي على المستوى الاقليمي ولفترة في بعده الجهوي وهو ما سنعود اليه في أوراق قادمة بحول الله.
ولعل ما احتضنته تازة من عشرات السهرات الموسيقية الرفيعة التي أثثها كبار المطربين المغاربة، كان المعهد الموسيقي دوما حاضرا فيها من خلال بصمة الأستاذ المزوري. ناهيك عما كان عليه جوق المعهد للموسيقى العربية من تميز رصين، أثار ما أثار من تنويه وردود مثمنة من قِبل كبار الأسماء الطربية المغربية، من قبيل عبد الهادي بلخياط وغيره ممن كانوا يحلون من حين لآخر بالمدينة، واضعين ثقتهم في جوق معهد تازة الموسيقى وقدرة رئاسة الأستاذ المزوري له، ولعل هذا وذاك من ماضي هذه المؤسسة المشرق هو ما يحفظه ويشهد عليه أرشيف صحافي واسع.
جدير بالإشارة الى أن زمن تدبير الأستاذ المزوري لمعهد تازة كان حافلا بالعطاء والانجاز والمبادرة، بحيث فضلا عن حضن المعهد بشكل غير مسبوق لثلاث فرق موسيقية بشكل غير مسبوق ولا لاحق ايضا، وقد توزعت هذه الفرق على الموسيقى الكلاسيكية (موسيقى الغرفة) والطرب الأندلسي ثم الموسيقى العربية.
وكانت هذه الأخيرة تظم عازفين متميزين من طلبة وأساتذة المعهد يسجل لهم انهم جعلوه خلال هذه الفترة الذهبية بهيبة وصدى كبير، علما أن عددا معبرا من هؤلاء إما هاجر الى بلدان أوربية وهم الآن على درجة عالية من التكوين والتأطير والنشاط بها، ومنهم من انخرط في سلك التعليم الموسيقي المدرسي أو الدرك الملكي. ناهيك عما شهدته هذه الفترة من فعل وتفاعل ابداع موسيقي وتلحين لقطع توجهت بعنايتها ونصوصها لتراث المدينة وحضارتها وزخمها الرمزي التراثي، وهي الأعمال التي تبلورت إما تحت اشراف الأستاذ المزوري أو داخل المعهد الموسيقي من خلال عمل تنسيق وتصويب وتوجيه.
بل من قلب معهد تازة هذا خلال نفس الفترة برزت أصوات طربية تازية متميزة، تألقت في تنافسيات موسيقية فنية وطنية عدة منها من احتضنته تجارب برامج رفيعة بالقناتين الأولى والثانية خلال تسعينات القرن الماضي. ناهيك ايضا عما احتضنه المعهد من ندوات علمية اكاديمية خلال هذه الفترة، ضمن انشطة محلية فنية وأدبية رفيعة اطرها باحثون موسيقيون ودارسون فضلا عن فرع اتحاد كتاب المغرب بالمدينة.
ويسجل ضمن أنشطة معهد تازة الموسيقى، ما حظيت به ذاكرة المدينة الموسيقية وأعلامها واسهاماتها وتفاعلاتها، فقد حرص الأستاذ المزوري على توثيق ما تيسر من تاريخ المدينة الفني الموسيقي خلال فترة الحماية ومنذ استقلال البلاد الى غاية نهاية تسعينات القرن الماضي، عبر ما أقدم عليه من جمع وتجميع لمعطيات أرشيف وشهادات شفوية لموسيقيين تازيين.
لعل ممن كان يتردد على المعهد منهم وكانوا موضوع لقاءات توثيق رواياتهم وحديثهم، هناك الحاج الطيب بن عصمان حفظه الله وهو من الموسيقيين التازيين الرواد وشاهد على عدد من التفاعلات والاسهامات والرجالات، ثم الحسين الأمراني عاشق الموسيقى الأندلسية وعز الدين العمراني وأحمد الخليفي وغيرهم رحمهم الله جميعا. وقد حرص الأستاذ المزوري على جمع ذاكرة تازة الموسيقية من خلال هؤلاء ضمن عمل توثيق وأرشفة موازية، استهدف بها جمع شتاتها وتبويبها وفرز معطياتها لبلورة نصوص من شأنها حفظ هذه الذاكرة، وجعلها رهن اشارة قراء وناشئة ومهتمين ودارسين.
علما أن ما تم جمعه سواء من خلال الرواية الشفوية أو ما توفر من مراجع ووثائق وأرشيف بما فيه الفرنسي، أمر عظيم جدا وغير مسبوق كتيمة كتابة تاريخية لجوانب فنية تخص تقاليد وذهنيات وعقليات. علما أن هذا العمل تطلب جهدا مضنيا ووقتا كبيرا لتجميعه، وقد شمل بدايات تجارب وأعلام موسيقيين تازيين خلال فترة الحماية، فضلا عن فترة ما بعد الاستقلال وخاصة ستينات وسبعينات القرن الماضي.
وعليه، يسجل للأستاذ المزوري ومن خلاله لمعهد تازة هذه الشجاعة الأدبية وهذه الخطوة التي تميزت بها تازة، لدرجة أن معهدها الموسيقي كان السباق وطنيا لتجربة توثيق ذاكرة المدينة الموسيقية على أساس نهج علمي ووثائق مصدرية. ويبقى الأمل كبيرا في اخراج هذا الجهد التوثيقي الموسيقي الرفيع الى النور، من أجل إغناء نصوص الخزانة الفنية البحثية التازية، وحتى يكون رهن اشارة قراء ومهتمين وباحثين كوثيقة مرجعية مؤطرة غير مسبوقة في تاريخ المدينة الموسيقي.
ولعل بقدر ما يسجل لمعهد تازة الموسيقى في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي ما كان عليه من صدى ومحطات، بقدر ما يسجل للأستاذ المزوري كونه كتب اسم المعهد الموسيقى بحروف من ذهب عندما جعله واحدا من أبرز مؤسسات التكوين الموسيقي على المستوى الوطني، على أساس ما كان يطبع هذه الفترة من تنافسية عالية ودرجة اقبال سنوي على المباريات الوطنية، بحيث يذكر الكثير من العارفين بالشأن أن تازة من خلال معهدها لم تكن تغيب عن هذه المحطات، وعندما كان طلبة معهد تازة يتخلفون عن حضور مباريات الرباط كان يطرح السؤال”، أين تازة؟ أين مرشحو تازة؟؛ ثم ثانيا عندما جعل المعهد الموسيقى بتازة رمز جدية وهيبة ومهارات وخريجين متميزين اغنوا وعاء الموارد البشرية الموسيقية المغربية بعدد من الكفاءات.
علما أن الأستاذ المزوري مدير المعهد الموسيقي بتازة لهذه الفترة وقبل أن يختار جهة الرباط وجهة له منذ مطلع هذه الألفية، لم يكن يحب ما هو ظهور براق ولا واجهة رغم ما يتملكه من كفاية علمية وهيبة وكاريزما موسيقية عالية جدا لا مثيل لها لحد الآن محليا.
وحتى عندما كان يرأس جوق المعهد الموسيقي بتازة لم يسبق له أن عزف مثلا واقفا بل دوما كان يشرف ويوجه من خلال جلوسه ضمنه، تواضعا واحتراما لِما يقتضيه الحس الموسيقي من أخلاق بعيدا عن كل أستاذية ولا طفولية، علما أن تقليد العزف وقوفا أمام فرق موسيقية ليس من التميز أبدا ولا من المفهمة والتوازن، ولعل ما بات من تمظهرات وبهرجة حديثة وتفريغ نفسي وبحث عن صورة ما لا غير، لم يكن من عادات وأخلاق فرق المغرب الموسيقية العريقة الرصينة إن داخل المعاهد أو خارجها، ونقصد هنا رئاسة الجوق أو الفرقة الموسيقية. وحتى ما هناك من هرولة لفائدة الصحافة وتسويق ذات وخلفية ما، لم تكن من اهتمامات أساتذة زمان الموسيقيين الرصينين سنوات سبعينات وثمانينيات وتسعينات القرن الماضي ولعلها فترة مجد وتدفق عطاء.
علما أن العقلية والوعي الذي كان سائدا مؤثثا للمشهد هو عقلية وفهم الفن من أجل الفن لا غير، وعيا بأن البقاء للمفيد وليس لخربشات سرعان ما تذوب مع الزمن. وعندما كان هذا الوعي قاعدة وسلوكا، كانت الأغنية المغربية، وكان الطرب والتجارب والأصوات والموسيقى المغربية بخير، حيث ما طبعها من هيبة وعلامات وكاريزمات حقيقة باتت في حكم نادر. أليس كذلك عندما تحضر صورة أساتذة موسيقيين مغاربة كبار، من قبيل احمد البيضاوي وعبد القادر الراشدي وعبد الرحيم السقاط وعبد السلام عامر وعبد العاطي أمنا والطنطاوي ومحمد بن عبد السلام وغيرهم كثير، وقد كانوا موسيقيين عازفين ونوابغ متفردين.
بعض فقط من مشهد ما كانت عليه حركة معهد تازة الموسيقي الى عهد قريب، وبعض ايضا من فترة مشرقة كان فيها عبد اللطيف المزوري المدير والأستاذ، بأثر ودور واسهامات كبيرة غير مسبوقة وهذا للتاريخ من باب الانصاف ليس الا، فقد جعل معهد تازة بصدى وطني ممتد لدرجة بات يضرب به المثل بين مبدعين وفنانين وحتى داخل دواليب وزارة الثقافة ايضا، ولا أدل على ذلك عدد الخريجين المتميزين من طلبة هذه المؤسسة ومنهم عازفين ماهرين على آلة الكمان خاصة، متمكنين من قواعد وضوابط عزف كلاسيكي تقني غربي، باعتباره وعاء حاضنا علميا بدونه لن يصح ولن يكتمل ويسلم أي تعبير موسيقي، ما هو غير خاف عن أهل شأن.
كل هذا وذلك حصل خلال فترة تسعينات القرن الماضي وجعل معهد تازة بمشاركات عدة، منها على سبيل الذكر فقط مشاركة فرقته الموسيقية في مهرجان دولي بألمانيا ممثلة للمغرب، وكانت بتعاون ثقافي وتبادل لتجارب فنية وقد سمحت هذه المحطة غير المسبوقة في تاريخ المدينة، بانضمام الأستاذ المزوري لفرقة موسيقية كلاسيكية فسيفساء عن عدة دول أوربية، ضمن حفل خاص بعروض موسيقية غربية كلاسيكية محضة، أبان فيها ابن تازة هذا ما أبان من مستوى رفيعا أثار ما أثار من جدل مسؤولين موسيقيين ألمان، تقدموا على اثره بعرض مغر لهذا الأخير من اجل التدريس بإحدى معاهد ألمانيا الموسيقية كأستاذ لآلة الكمان الكلاسيكي، وكان بإمكانه القبول بموقع هو بكثير من الأفق.
ولعل هذا وذاك شهادة معبرة من ألمان وما أدراك ما الألمان صوب كفاءة تازية مغربية موسيقية، تلك التي بقدر ما شكلت ايقونة تكوين وتأطير وعطاء لفترة بقدر ما صنعت مجدا موسيقيا تكوينيا اكاديميا رفيعا وفترة موسيقية تازية مشرقة يضرب بها المثل، تلك التي لا يزال صداها ممتدا في ذاكرة المدينة، التي يستحق كل فضل وتفان ثقافي وابداعي وعلمي وفني رافع لاسمها ومكانتها هنا وهناك كل تقدير واجلال واكبار. وبارك الله في أمثال ايقونة آلة الكمان الكلاسيكي عاشق تازة الأستاذ عبد اللطيف المزوري، الى حين ورقة لاحقة اخرى بحول الله عن رحاب أمس موسيقى تازة وأعلامها وإشراق ذاكرتها.
مركز ابن بري التازي للدراسات والأبحاث وحماية التراث
التعليقات مغلقة.