تقاسماً لرأي لا غير وتفاعلا وانصافاً لبادرة درامية تازية بقيمة مضافة غير مسبوقة بعيداً عن أية شوفينية ولا امبريقية وعي، وتثميناً لتاريخٍ مَعْلمَة فنية وعلامةٍ ومَعْلمٍ وخبرة وإرادة قوية وإسم ارتبط بثقافة مدينة على امتداد عقود من الكفاح الابداعي، ارتأينا هذه الورقة لعمل درامي محلي ببعد وطني وكوني وهوية اشتغال باعتباره نموذجاً تازياً بامتياز. ولعله سياق يحضر فيه ما تساءل عنه يوماً أحمد سيجلماسي الناقد السينمائي الملم، لما عَرَّج في كلمة له حول غياب إلتفاتِ المخرجين لطاقات ما وراء المركز الدرامية، مؤكداً على ما يميز ويطبع أعمال الدراما بعدد من الجهات من قدرات تعبير عالية كما “الهايم” لمخرجه نور الدين بن كيران، الذي يملك ويتملك طاقة فعلٍ درامي قوي ظهر جلياً فيما أسند له من أدوار في أعمال تلفزيونية وسينمائية عدة، لعلها من الروافد التي جعلته بما هو عليه من تجربة ومسار وخبرة وموقع فني رفيع وكاريزما درامية بكل ما للكلمة من معنى.
و”الهايم”The Roamer هذا عمل درامي أخرجه الفنان نور الين بنكيران مؤخراً، بنص فيه كل معاني ما وقع في قلعة بجزيرة في عالم نسيان ومقبرة غرباء، حيث موت انسانية انسان واحتضار ضمير تاركاً خيط دخان لا غير، هناك حيث طفولة وبحث عن ذاكرة فقدها هائم في متاهات دمار وخراب، في زمن تُنوسِي فيه نور وحق وعدل وسلام. وهذا الهائم الغريب اختار اللاعودةٍ لرذيلة وخطيئة لترعرع في زمن ومكان يدرك معنى أمل الانسان وحبه وسكينته. ومن هنا أشباح بلا رحمة طاردته وعذبته ودفنته فقتلت طفولته وجسده وكبلته بأغلال، داهسة قبره وهي ترقص مبتهجة باغتيال ذاكرة وسط زحام. متناسية أن الهائم عائد لا محالة لعالم حب وسلام، لإحياء ضمير واعطاء الإنسانية معناها الحقيقي التي من أجلها ولد وكان الإنسان انساناً.
ونص”الهايم” هذا في رؤية حياةٍ نوع من تيهٍ ذاتي في دروب خوف وعنف.. برغبة في تضحية بثوابت تنشئة، فكان هائم وتهديد عيش بارتماء في حضن أشرار طالما تلذذوا بتعذيب ضعفاء بإبعادهم وقتل إنسانية الإنسان فيهم. انما لما حرك ضمير الهايم وجدانه قرر ما قرر من النأي عن الخطيئة والرذيلة، ليغتسل روحياً وذاتياً بماء شلال إعلانا منه عن ابتعادٍ كلي عن الشر. وليرحل عن أهل وديار في عشق لنور وعدل وخير وسلام، تائهاً في بحث عن كائن وممكن وإنسانية انسان، لكن رجال القلعة طاردوه عذبوه ففقد الهائم ذاكرته وماضيه. وعلى ايقاع رحلة عذابه كان الهايم بضمير يرفقه وذاكرة تنير طريقه الى ما هو حب وخير وتعايش وجمال، وبعيداً في خلوة بكهف لما كان يحتضر نادى على من نادى مفصحاً أنه تذكر ضميره، وأنه لم يمت بل حياً ببذور خير للإنسان ولعالم تتقاسمه قيم محبة ونور وعدل سلام…
وفيلم “الهايم”بنصه الدرامي العميق والرمزي هذا، توزع تصويره على مواقع عدة من جوار تازة حيث أدغال غابةٍ وعلو وشموخٍ جبل وثلوج وشلالاتٍ وأودية، اضافة لمواقع بتميز عمراني تاريخي مغربي أصيل وبدلالات تراثية ووقائعية كما قصبة امسون الاسماعيلية غير بعيد عن تازة شرقاً. ويُسجل لـ”الهايم” أن تصوير فصوله تمت بنقاط دقيقة الانتقاء وأكثر انسجاماً مع نص وتجاوب وأدوار، فضلاً عما طبع تشخيصه من حماس درامي ومجازفة. مع أهمية الاشارة لذاتية انتاج في غياب دعم أية جهة لهذا العمل، الذي هو بمساحتين زمنيتين في العرض الأولى طويلة بحوالي ساعة والثانية قصيرة بثلث ساعة. اللهم أعمال دراما يوجد بصددها مخرجنا والتي ستكون مدعمة من قِبل المركز السينمائي المغربي.
وتجربة “الهايم” الدرامية وما تحتويه من رمزية فنية انسانية دقيقة، كانت بأثاث مادي رفيع وطاقات سينمائية شابة أبانت عن تميز موهبة وقدرة تشخيص واجراء عالٍ تقاسمته فصول “الهايم”، وهو ما جعل أدوار هؤلاء بأداء مدهش في عرض افتتاحي أول خلال دورة مهرجان سينما الهواء الطلق الأخيرة، الموعد الدرامي الذي ينظمه نادي المسرح والسينما ودأب عليه جمهور تازة خلال ربيع كل سنة. وكانت دورة سينما الهواء الطلق الأخيرة بتازة بحضور لأسماء سينمائية مغربية من عيار رفيع، كفاءة وفكراً ومهنية ومصداقية ابداعية وتفاعلا، كما فاطمة بوبكًدي مخرجة سلسلة”رمانة وبرطال” التي نجحت في جعل تراث البلاد وارثها اللامادي بمساحة فرجة جاذبة غير مسبوقة في تاريخ دراما المغرب على الاطلاق، ناهيك عن نقاد سينمائيين ممن هم بتحكم وقراءة وتحليل للنصوص. فكان جَمْع وفُرجة وتأمل في سينما “الهائم” وكانت دهشة واكتشاف واعتبار وشهادة فيما هي عليه المدينة من تجارب.
مع أهمية الاشارة الى أن”الهايم” هذا العمل الدرامي بالعربية الفصحى الذي أثار ما أثار من نقاش وثناء وتقدير وجوائز هنا وهناك في ملتقيات ومهرجانات بعدد من المدن المغربية. تطلب حوالي السنتين من الاعداد والتفكير وعياً بحجم المسؤولية وسلطة متفرج ومتتبع ومتلقي ليس سهلا على المخرج بلوغ ثقته وتجاوبه. وفيلم”الهايم” من بطولة: نور الدين بن كيران- سمية فائز- حسن فائز- خالد بقراوي- عبد الرحيم وهاب- عزيزة امزيان- ايمان القرموني- ايمن العلوي- جلال الدين مطالسي- رضا الغنامي- عبد اللطيف جزاري. تمثيل: كريم يابوري- ليلى مزيان مطالسي- اسماعيل يوسفي- عبد الرحمن زروال- بدر بن داود- ماجدولين كحيحلي- هند صبحي- بلال امزور- أمين جلولي-أطفال جمعية أزداد … قصة وسيناريو واخراج نور الدين بن كيران تصوير عبد الرحيم وهاب ويونس رطيبي اكسسوار وديكور رشيد عليلي.
يُذكر أن مخرج”الهايم” العضو في الفدرالية الدولية للممثلين والنقابة المغربية لمهني الفنون الدرامية، انفتح على عالم التمثيل مع بداية سبعينات القرن الماضي عبر عشرات الأعمال المسرحية والتلفزية والسينمائية مع عشرات كبار المخرجين مغاربة وأجانب، فضلا عن اسهاماته في مواعيد دولية مسرحية ودرامية بتونس والأردن ومصر والعراق وغيرها. وللاشارة فقد فاز فيلم الهايم بالجائزة الكبرى للملتقى الوطني السادس”أيام فاس للتواصل السينمائي” في دورته الأخيرة، ضمن غمار تنافسي شمل أفلام “مخاض” و”أحلام” للحمداوي(وجدة) و”فحم ودم”، و”ذاكرة النسيان” لأميمة حيدا (الرباط)، و ”برقيمة مفهومة” لياسين سميح(آسفي) و”آخر صورة” لفيصل الحليمي(طنجة) و”ليس أبيض وليس أسود” لمنير علوان (العيون)، و”مساج” لمحمد الشباني(مراكش) و”افتحوا النوافذ” لنبيل جوهر (سطات) وغيرها.
ونور الدين بن كيران هذا “الهايم”، هو مقام وقامة فنية بدرجة سمو وتفرد وطاقة وكفايةٍ درامية شكلاً ووعياً فنياً وكاريزما على امتداد عقود من الزمن، بمؤهلات ومستوى تشخيـص رفيع مستفيداً من خبرة وجَمْعٍ بين تأليف مسـرحي واخراج وكتابةِ قصةٍ وسناريو، كذا ما كان عليه من زخمٍ مسرحي ودرامي لِما يقرب من نصف قرن، كل هذا وذاك من زمن رَجُلٍ وذاتٍ ورغبة ومبادرة وشجاعة كان وراء ورش درامي واعد بادر اليه مؤخراً بعد عقود من العمل المسرحي، ورش يُعد “الهايم” باكورة انتاجه نصاً وسيناريو واخراج والقادم لا شك أفضل.
ولعل تجربة الهايم الدرامية من خلال بصمة مخرجه، تدفعنا للتساؤل حول أي جدلٍ كائنٍ وممكن بين مركزٍ وجهاتٍ إن لم نقل هوامش في الدراما المغربية، وأي قرب ينبغي بين فعل هذه الأخيرة والمحلي الجهوي من الموارد، حيث الغنى من إنسان وطبيعة وتعبير وشواهد وتجارب ومواهب… وهل في أرشيف دراما بلادنا ما يحيل حقيقة على انفتاحها على زمن المغرب ومجاله، بما في ذلك من نبوغ وتميز وقائعي وتفاعلي وبما يسمح بتقييمٍ ومقارنةٍ واستشراف. وهل مركزية فعل الدراما هي بعلاقات مع المحلي بقوة واقع ما، من تصوير واخراج ونصوص وقرب فاعلين ونوعية مهارات وقدرات وتواصل وتعاقد..،وأية حدودِ تناولٍ لِما هو قصير وطويل وكم ونوع وهواية واحتراف في عمل دراما بلادنا، ضمن تفاعل وإنصات لمِا هو رافع محلي من موارد وانسان وتراث…
بل وأية تجاربٍ تُسجل لفائدة ريبرتوار الدراما المغربية وتاريخها في هذا الاطار، وأي راهنٍ وتأسيسٍ وإغناءٍ وتعميقٍ وتقاسم..للكائن الدرامي جَدلاً، لجعل دراما المغاربة بما ينبغي مما هو شافٍ من امتدادٍ وتكامل وانفتاح وتأمل واستثمارٍ، في أفق تناغم تفاعلها مع رهانات البلاد وتطلعاتها، تماشياً مع رهانات مناظرة الرباط الوطنية اكتوبر 2012، التي بقدر تأكيدها على قيمة وأهمية تعدد ملتقياتنا الدرامية هنا وهناك من المدن، وما باتت عليه من جذب ثقافي وصدى اقليمي وطني ودولي، بقدر ما يفرضه واقع حالها من مواكبة وتنمية ضماناً لاستمراريتها وتجويداً لأدائها، ومن أهمية انتقال الى النوع وتثمين هوية الوطن وانفتاح على ثقافاتٍ وقيمِ انسانية. اشارات وغيرها من رهان هذه المناظرة التي استهدفت ما تزخر به بلادنا من موارد وقدرات وتجارب وعمل درامي، وما ينبغي الالتفات اليه في زمن تدفق قيمٍ ورقميات وعولمة، ولِما ينبغي اشراكه من كائن درامي محلي رافع لتجويد هذا المجال وتطويره ومهننته.
وحول المحلي في الدراما المغربية مع ما للأمر من مرتكز وآليات تجمع بين سلطة إرث وتقنيات وموارد اشتغال هنا وهناك، وعلى أساس طبيعة تراكمات بلادنا منذ ستينات القرن الماضي تحديداً، وفضلاً عما هو تيمة واتجاه وقيمة وابداع واشعاع… لحوالي نصف قرن. يحق لنا السؤال حول نموذج أو نماذج اشتغال درامية، قد تكون استثمرت بما هو شافٍ رافعٍ لِما هو محلي من قدرات وتجارب وموارد طبيعة، بمثابة استوديوهات مفتوحة بتركيب رفيع. ويحق السؤال أيضاً حول نماذج فعل الدراما المغربية التي قد تكون تأسست على المحلي من تجارب ونصوص وموارد وغيرها، بل ويحق سؤال المهتم والمتتبع والفاعل، حول علاقة المسرحي بالسينمائي المحلي في هذه النماذج، ودرجة قدرتها على نقل تيمتها وشخوصها وإخراجها ونصوصها وحكاياتها وايقاعها وأدائها وذوقها، أيضاً هويتها وإرثها وبنية وتميز وتفرد مشاهد مجالها وفرجتها السينمائية الى ما هو وطني ودولي.
وبقدر ما هناك من صعوبة في تحديد بداية حقيقية للدراما المغربية منهجياً ومفاهيمياً،- الأمر يهم مسارها وتحولاتها ومكانتها وإسهامها أيضاً-، بقدر ما يُطرح حول طبيعة تأمل وتحليل وتفكيك الخطاب الدرامي المغربي من قِبل النقاد، وحول غياب تناول ما يسمح بعبور هذا الخطاب الى المتلقي من آليات، كذا ما يتعلق بأشكال مقاربة لنقاط قوة وضعف ونموذج الخطاب الدرامي وليس خطاب ابداع، مع ما هناك من تباين مفاهيمي بين المكونين سواء كان شأن الدراما وطنياً أو محلياً.
ولا شك أن التراثي في جميع تجلياته ومعه رمزية تحولات وتفاعلات المجتمع المغربي…هو مجال رافع للدراما من خلال محاكاةٍ وسؤالٍ وبحث… في اطار علاقة زمن بواقع وانسان. وبقدر أهمية جدل الدراما والواقع بقدر ما هي مدعوة للاجابة عن سؤال خدمتها وكيفية خدمتها لهذا الواقع باستمرار مع ما هو عليه من ظواهر انسانية واجتماعية وثقافية. ونعتقد أن نصوص التراث في الدراما المغربية هي بقضايا عدة ومتداخلة، مِساحة هامة منها لا تزال خارج ضوء الفاعلين في النقد السينمائي الى حد ما. وعلى أساس ما يزخر به من مكامن، للتراث المغربي قوة وسلطة في عمل الدراما يجعلها أكثر امتداداً وتعبيراً وإحالة على متغيرات برمزية عالية. ولعل الارث المادي واللامادي في الدراما المغربية هو بتجليات فيها زمن وانسان ومكان..، ما ينبغي موضعته ابداعياً حتى تكون دراما بلادنا بنية بإنتاج واقبال واعتبار وفكر وهوية.
وما أحوجنا لتحصين إرثنا من خلال ثقافة صورة لمزيد من هويةٍ وتماسكٍ وتناغمٍ محلي وكوني، وعياً بما بات لتراث الشعوب من رمزية حضارية في زمن عولمة تقنية وفكرية، ويبدو أنه مقابل سعة مخزوننا التراثي، هناك محدودية آلياتِ ابداعٍ من شأنها جعل تراثنا وظيفياً بأدوار اجتماعية وانمائية واقتصادية… والدراما المغربية هي بموارد قادرة على إغناء حياة انسان بتجارب انسان وتجارب مجتمع بتجارب مجتمع، وعياً بما لها من تواصل وقيم وتفاعلات ومعاني وبما للصورة من حركية أكثر تأثيراً على الأفكار، وبما يحتويه تراثنا من ذخيرة خصبة للدراما من شأن رمزيته إغناء تمثلات إخراجٍ ومعالمَ أفلامٍ بقيمة فكرٍ وفرجةٍ معاً.
تبقى موارد الجهات أو المحلي بشكل أدق في الدراما المغربية كما فيلم “الهائم” الرفيع فكرةً وأداءً واخراجاً، بقدرات من شأنها اغناء وعاء دراما بلادنا على هذا المستوى أو ذاك، وتقوية تنافسيةِ تجويدٍ في المجال بما يقتديه من بحث وتنقيب ونصوص وابداع… في اطار ورش جهوية متقدمة واعدة رافعة لِما هو وطني فنياً وثقافياً. ونعتقد بتواضع أمام الباحثين والمختصين والفاعلين، أنه ليس سهلا القول بكون دراما بلدنا هي بخير وعلى خير مادام هناك تقنيات وتقنيون وقدرة إدارة تقنيات، فقد يكون وعي بهذا القدر بفهمٍ غير مقنع ولا شافٍ على أساس أن التقني كيفما كان حجم وشأن طاقته لا يمكن التعويل عليه لوحده، وأن السؤال الحقيقي ربما الصعب هو أين هي خصوصية وهوية المغرب والمغاربة في الابداع والمبدع الدرامي المغربي؟ وأي خطاب درامي نحن عليه؟ وأين هي مساحة نبوغ وذكاء المجتمع المغربي وقضاياه؟ وأين هي البصمة بفهم ولغة الباحثين والدارسين والاقتصاديين الانمائيين؟ وحتى إذا افترضنا جدلاً أن تراث البلاد وتاريخها وسسيولوجيتها وانسانها، هو بنوع من الحضور في فعل الدراما المغربية وأسئلتها، فكيف يتم تقديم ذلك وبأية وظيفية ايجابية للبلاد والعباد؟.
التعليقات مغلقة.