حول العلاقات المغربية الايطالية .. أبحاث وتجليات وذاكرة

 عبد السلام انويكًة

     توجهت جهود عدد من الباحثين المؤرخين المغاربة خلال الثلاثة عقود الأخيرة، لدراسة العلاقات المغربية الأوربية ورصد تجلياتها خلال القرن التاسع عشر، الورش العلمي الذي كان بأثر معبر في اغناء وتمكين المكتبة التاريخية المغربية من سلسلة اصدارات بقيمة مضافة عالية، ملأت فراغاً حقيقياً من خلال مقاربتها لجوانب هامة من زمن العلاقات الخارجية للمغرب في ارتباطه بالضفة الغربية للبحر المتوسط حضارياً خلال هذه الفترة.

   ولعل مما تمحور حول المشترك التاريخي المغربي الايطالي مؤلَّف “العلاقات المغربية الإيطالية” للباحثة بهيجة سيمو، الذي جاء ضمن منشورات اللجنة المغربية للتاريخ العسكري في أزيد من ثمانمائة صفحة. وقد تقاسمته اشكالات تاريخية عدة جمعت بين سياق علاقات دولية عامة ومصادر ايطالية حول المغرب، كذا علاقات المغرب مع ايطاليا من خلال الأرشيف الفرنسي والإيطالي وأرشيف الفاتيكان، فضلاً عن  وثائق ومستندات مغربية ورحلات سفارية ومذكرات وغيرها. مع أهمية الاشارة الى أن زمن المؤلَّف يبدأ من نهاية ستينات القرن التاسع عشر، تاريخ أول مشروع عسكري إيطالي استهدف تأسيس مستعمرة في جنوب المغرب إلى غاية فرض الحماية الفرنسية  عليه.

     والدراسات التي تناولت العلاقات المغربية الخارجية سواء في الفترة الحديثة كما بالنسبة للعلاقات المغربية العثمانية من خلال عبد الحفيظ الطبايلي، أو الفترة المعاصرة مثل المغرب وبريطانيا العظمى خلال القرن التاسع عشر لخالد بن الصغير أو العلاقات المغربية الأمريكية الجنوبية لسمير بوزويتة، كذا العلاقات المغربية الأمريكية من خلال التمثيل الدبلوماسي لمحمد بن هاشم والعلاقات المغربية الصينية لميمون مدهون، فضلاً عن اسهامات في نفس الاتجاه شملت العلاقات المغربية البرتغالية والهولندية والألمانية والاسبانية والفرنسية وغيرها، تلك التي كانت بفضل في اغناء المكتبة التاريخية المغربية بطروحات هامة.

    واذا كانت هذه الأعمال العلمية قد قامت على قاعدة هامة من المصنفات والوثائق الأجنبية، فنفسه النهج الذي اعتمدته صاحبة مؤلف”العلاقات المغربية الإيطالية” وفق حذر علمي لمِا احتوته هذه الوثائق والدراسات الأجنبية من خلفيات ومعطيات بحاجة لتدقيق. علماً أن من الدراسات الايطالية حول مغرب هذه الفترة من كانت على درجة من الموضوعية، كما بالنسبة لـ “للينا مدلينا شيزوتي فيرارا” صاحبة مؤلف”في المغرب .. ذكريات شخصية لحياتي الخاصة”، والتي تظهر بنوع من الانضباط في أحكامها :”إنه على الرغم من تعدد .. الذين حاولوا بناء صورة مغرب القرن التاسع عشر، فقد ظل هذا البلد المتعدد التناقضات غريبا تجهل مكوناته الكثير من البلدان الأوربية. إذ لم يستطيع أحد من كتابها أن يلج إلى عمق هذا الشعب الذي يعتبر من أقدم الشعوب، فهو بدائي بسيط و في الوقت نفسه شرس ومرهف الحس ساذج وحاد الذكاء قادر على التغلب على أخطر الملابسات”

     وحول العلاقات المغربية الإيطالية من الأصول حتى نهاية ستينات القرن التاسع عشر، أوردت بهيجة سيمو أن انفتاح المغرب على حوض المتوسط جغرافياً جعلته موقعاً لأطماع عدة أجبرته على التواصل والتفاعل التجاري، وأن من الأحداث المتوسطية ذات العلاقة بالمغرب وبالأثر عليه في بداية العصر الحديث، هناك سقوط غرناطة 1492 واحتلال انجلترا لجبل طارق 1701 ثم فتح قناة السويس 1869. كلها  تطورات كانت وراء تزايد صراع الأوربيين بالبحر المتوسط وتسابقهم من أجل تقاسم الشمال الافريقي، ما التحقت به ايطاليا بعد تحقيقها لوحدتها فكان المغرب واجهة متوسطية توجهت إليها أطماعها.

    وتذكر الباحثة بهيجة سيمو أن العلاقات المغربية الإيطالية انبنت على أهمية الموقع الاستراتيجي للبلدين في البحر المتوسط، وعلى المشترك القديم الذي يعود لفترة الوجود الروماني بالمغرب كما تشهد على ذلك أطلال وليلي. واذا كانت هذه العلاقات قد ازدهرت خلال العصر الوسيط تجارياً، فإن ما سجل على عهد مولاي اسماعيل هو تراجعها لفائدة فرنسا من خلال اتفاقيات همت جوانب عسكرية سياسية وتجارية. لتنتعش خلال القرن الثامن عشر مستفيدة من سياسة انفتاح السلطان محمد الثالث، والتي تكللت بتوقيع اتفاقية صداقة وتجارة مع البندقية سنة 1765.

وبقدر ما كانت ايطاليا من الدول الممثلة في المغرب بسلك قنصلي منذ العصر الوسيط، بقدر ما كانت من البلدان الأولى التي أوفد إليها السلطان محمد الثالث بعثة سفارية برئاسة محمد بن عثمان المكناسي صاحب “البدر السافر لهداية المسافر إلى فكاك الأسارى من يد العدو الكافر”، ما شكل تفاعلا مغربياً ايطالياً وتواصلا حضارياً بين البلدين وأرضية لما هو بيني من علاقات. بحيث خلال القرن التاسع عشر فترة تزايد الأطماع الأوربية حول المستعمرات، تحول البحر المتوسط إلى مجال لصراع سياسي واقتصادي في وقت كان المغرب فيه عاجزاً عن التصدي للغزو الأجنبي. وعليه تغيرت بعض مواقف السلطان مولاي سليمان من سياسة الاحتراز ومن الدويلات الإيطالية، بدليل رسالة شكر وجهها إلى ملك جنوة على إثر ما قدمه من مساعدة لتاجر مغربي يدعى “الفاسي ولد مكوار”. ما يعني تحسن العلاقات المغربية الإيطالية من خلال سلسلة اتفاقيات أبرمت لأول مرة أو تم تجديدها في عهد السلطان مولاي عبد الرحمان، هذا في وقت عرف فيه المغرب والمنطقة المغاربية حدثين هامين تمثلا في احتلال فرنسا للجزائر ثم انهزام المغرب في إسلي. مع أهمية الاشارة الى أن ظاهرة الحماية القنصلية بحسب بهيجة سيمو شكلت إحدى القنوات التي ارتكزت عليها امبريالية ايطاليا في المغرب منذ القرن الثامن عشر، في ارتباط بسياسة انفتاح السلطان محمد بن عبد الله. وأن نمو مصالح ايطاليا التجارية في المغرب ساهم في اتساع تمثيلها الدبلوماسي والقنصلي به، حيث استقر هؤلاء في مدن سلا وطنجة والصويرة

وحول تجليات الأطماع في المغرب ضمن التنافس الأروبي حول مجاله خلال القرن التاسع عشر،

من المفيد الاشارة الى تركيز ايطاليا على جنوب المغرب (واد نون) على أساس بعده عن الحكم المركزي، من خلال استراتيجية الجنرال “سكوفصو” التي اعتمدت عرض القوة البحرية في بعض سواحل المغرب، لتقوية مكانة الدبلوماسية الإيطالية ومعها المحميون واقامة مستعمرة إيطالية بالمنطقة الجنوبية، وهو ما فشل تقنياً ودبلوماسياً على اثر تحول الشواطئ المغربية إلى مجال لأطماع فرنسية وانجليزية وألمانية وفق ما خلصت اليه الباحثة.

وفي عهد السلطان الحسن الأول حدث تبادل دبلوماسي بين البلدين (سفارة سكوفاصو إلى فاس 1875) (سفارة محمد الزبدي إلى أوربا 1876)، وكان رهان السفارة المغربية التي كانت ايطاليا معنية بها إثارة مشكلة الحماية القنصلية. وتذكر الباحثة في مؤلفها حول العلاقات المغربية الايطالية ما تعرضت له السفارة المغربية إلى إيطاليا من تشويش وبلبلة، على اثر ما قام به اليهودي”جول مونج” الترجمان والمحمي الفرنسي الذي رافق سفارة الزبدي، مدبر عملية سرقة هدايا سلطانية للملك الايطالي لضرب تعاون البلدين، ولعل للقضية علاقة باستراتيجية فرنسا لتحقيق أهدافها وإقصاءها لباقي منافسيها في المغرب.

وبقدر الأبعاد الاقتصادية الايطالية في المغرب ورغبتها في ردع التنافس الفرنسي الانجليزي وإيجاد موقع في المغرب. بقدر اعتمادها على حماية قنصلية للتوغل في المغرب توجهت بها لفئة اليهود المغاربة لانتزاع أقلية ثرية بالبلاد والاستفادة من دعمها للاتحاد العالمي الإسرائيلي. ومسألة الحماية القنصلية إن من حيث اضرارها وخلفياتها أو ردود فعل المغرب تجاهها، كانت بأثر في تعميق العلاقات بين البلدين منذ نهاية القرن التاسع عشر، فضلا عن رغبة المخزن المغربي في تحديث هياكله عبر تكوين بعدد من الدول الأوربية  منها إيطاليا .

ولعل من مجالات تعاون المغرب وايطاليا منذ نهاية ثمانينات القرن التاسع عشر الى غاية فرض الحماية الفرنسية على البلاد، محاولات انخراط إيطاليا فيما كان بصدده المغرب من اصلاح وامتيازات لفائدة الدول الأوربية الأخرى. فخلال هذه الفترة أوردت الباحثة أن بعثة عسكرية إيطالية استقرت بالمغرب، فضلا عن تكوينها لأطر مخزنية تكلفت بصنع الأسلحة وسك العملة لتظل مقيمة بالمغرب إلى حدود 1912.

وحول تجليات العلاقات المغربية الايطالية خلال القرن التاسع عشر، ما قام به الوزير المفوض الايطالي في طنجة “سكوفاصو” عندما اهدى للسلطان رشاشا ليظهر له افاق التعاون العسكري الأكثر نفعا بين البلدين. بل اقترح إقامة معمل للسلاح بفاس تحت إشراف تقني إيطالي، وهو ما اعتبر من وجهة نظر المخزن المغربي أنه جاء لإعاقة توجهات الدول الامبريالية ومراميها وضمان توازن القوة بالمغرب ولذلك كانت إيطاليا محط اختياره.  وبقدر ما عمق هذا التقارب والتعاون المغربي الإيطالي العسكري، الصراع بين ايطاليا وفرنسا بحكم المصالح الاستراتيجية للبلدين في المغرب. بقدر ما دفع لتبادل مجموعة من السفارات (سفارة كنطاكلي إلى تطوان 1889) (سفارتي المزامري 1890 وعبد السلام بن  برشيد الشاوي إلى إيطاليا 1892).

    وقد بلغت الاستعانة المغربية بإيطاليا أوجها  عام 1891، عندما طلب المغرب من  إيطاليا صناعة سفينة حربية له سميت “بشير الإسلام بخوافق الاعلام”، فضلاً عن سك عملة نحاسية بفاس وتحقيق مشروع بنك وإنجاز مشروع سكة حديدية، اضافة الى مشاريع أخرى تخص الهاتف إنارة القصر السلطاني لتكون الدبلوماسية الإيطالية قد نجحت في كل مبادراتها تجاه المغرب..

وكانت السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر بأثر كبير في  تعقيد القضية المغربية لفائدة فرنسا، التي انتقلت إلى عملية إقصاء منازعيها في هذا الموقع الاستراتيجي من البحر المتوسط غرباً، ولتحقيق رهاناتها السياسية اعتمدت مجموعة اتفاقيات، وضعت نهاية للتنافس الأوربي حول المغرب. ولعل الفترة كانت مهمة بالنسبة اليها على إثر وفاة السلطان الحسن الأول ودخول المغرب فترة وصاية (هيمنة باحماد على مهمة تسيير البلاد بتوافق مع أم السلطان)، أضف إلى ذلك ما حصل من صراع داخلي بين كبار القواد والشخصيات النافدة في المخزن، شروط وغيرها كانت وراء انزلاق الأمور شيئا فشيئا من يد المخزن لتتحكم فيها دول متنافسة على رأسها فرنسا، مع أهمية الاشارة الى سقوط سياسة “كرسيي” الايطالية المعادية لفرنسا خلال هذه الفترة ليحصل هناك تقارب دبلوماسي بين الدولتين.

وقد زاد اهتمام إيطاليا بالمغرب مع بداية القرن الماضي لإستعماله ورقة سياسية لتحقيق أطماع بمناطق أخرى، ولعله السياق الذي جاءت فيه الاتفاقية الفرنسية الايطالية السرية (1900) التي تضمنت أطماع ايطاليا في ليبيا وموقف فرنسا منها، ثم الاتفاقية الشهيرة لسنة (1902) حول المغرب وليبيا. وأثناء انعقاد مؤتمر الجزيرة الخضراء سنة 1906 الذي حضرته إيطاليا بوفد كبير من شخصيات وبارزة، تبين لها أن فرنسا باتت متحكمة في قضية المغرب بعد إقصاء منافسيها. وقد تميزت العلاقات المغربية الإيطالية عام 1910 بتوقيع اتفاقية جديدة لإعادة تشغيل معمل السلاح بفاس، وهي الاتفاقية التي جردت البعثة الإيطالية من صفتها العسكرية باعطائها صفة مدنية باتت تعرف ب “البعثة الإيطالية الملكية”. مع أهمية الاشارة الى أن الأطماع الألمانية في المغرب ومعها حادثة أكادير الشهيرة، فرضت تحفظا في ردود الفعل الرسمية الإيطالية مع تساؤلات للرأي العام الايطالي حول موقع إيطاليا في هذه التطورات، في وقت أصبحت فيه ليبيا على مرمى من الاحتلال الإيطالي بعد ما سجل من محاولات لإستمالة شخصيات ليبية (السنوسيين).

يبقى بحسب ما خلص اليه مؤلف العلاقات المغربية الايطالية للباحثة بهيجة سيمو، أن التقارب الفرنسي الايطالي خلال السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر كان على حساب العلاقات المغربية الإيطالية، عندما بدأت البعثة العسكرية الايطالية تمثل إلى الأفول بعيداً عما كان لها من أهداف. فبعد أن كانت إيطاليا تتحكم في مشاريع مغربية حساسة باتت تحت رحمة مقاييس دولية، ومع بداية الأفول الإيطالي في المغرب منذ عقد مؤتمر الجزيرة الخضراء أمام اتساع للأدوار الفرنسية في المنطقة. لم يعد موقف إيطاليا سوى مساندة الخطاب الفرنسي متحينة فرصة المطالبة بتعويض في إفريقيا، لتجد في أحداث فاس وأكادير فرصة مناسبة لاحتلال ليبيا والانخراط في المشروع الاستعماري.

    وكان مؤلف “العلاقات المغربية الايطالية ” للباحثة بهيجة سيمو على درجة من القيمة المضافة لفائدة الخزانة التاريخية المغربية، باعتباره دراسة علمية وضعت المغرب ضمن تفاعلاته السياسية المتوسطية خلال القرن التاسع عشر، أبانت عن عمق تاريخي ومشترك في علاقات بين البلدين. تطورت من اهتمام ايطالي بموقع المغرب الاستراتيجي للمغرب، إلى عملية تعاون في الإصلاح المخزني زمن الحسن الأول وتوظيف لورقة المغرب في تحقيق أطماع استعمارية بالبحر  المتوسط. ويستنتج أن سلاطين المغرب لهذه الفترة الدقيقة رغم صعوبة ما اقليمي ودولي خلال القرن التاسع عشر، حاولوا توظيف حضور ايطاليا في سياسة توازنات البلاد عموماً مع الأوربيين.

مع أهمية الاشارة الى أن “مؤلف العلاقات المغربية الايطالية” جدير بالقراءة من قبل الباحثين والمهتمين، لسبقه في التأسيس لفهم العلاقات المغربية الإيطالية على اساس علمي تاريخي معزز بوثائق وأرشيف هام. وكان ما هو كرونولوجي وتحليل ومقارنة بين الوثائق منهجاً في بناء هذا العمل، الذي أورد عنه أحمد التوفيق المؤرخ  أنه بقدر ما يضيف شيئا لتاريخ أوربا بقدر ما يبرز أشياء في تاريخ المغرب. معتبراً أن قراءته الأصيلة لجانب من التاريخ جعله بتميز وجِدة وكفاءة في التناول، فضلاً عن امتلاك صاحبته للصناعة البحثية العلمية من خلال جرأة تأويلها تازة واقتصارها على اشارات حذرة تارة أخرى.

التعليقات مغلقة.