“محمد أمين” نهر “الكناوي” الخالد رغم صعوبة أفق الاستمرار

محمد حميمداني

حينما يصدع طير “تاكناويت” في فضاء الصحراء المفتوح ، تنقشع من بين ثنايا التيه و الغموض ملامح ولادة قيصرية تعانق موسيقى “كناوة” لتحيلها من موسيقى الشارع إلى موسيقى الروح و الإبداع المغلف بملامح صوفية ، تغذت قبل ربع قرن من الزمن من ينبوع الصحراء ، و لا زالت مصممة على الصبر و الجلد في رحلة المسير ، لتحضى رغم العثمة باعتراف دولي ، و تقدير أصيل لتاريخها و عمق متجدد لمحمولها روحا و تنوع لامتناه في فضاء العطاء المتجدد موضوعا  ، لتعبر بقوة حضورها الحدود و تخترق كل المجهول الذي كان يحتويها فتحتويه و تحيله إلى لغة عالمية تتجاوز أثون الرثيب القائم لترسم لنفسها نمطا متميزا قائما بذاته ،  و تبهر الآلاف التي تصطف في طوابير لاختراق جذبتها و تعانق شجونها و ما تحمله من دلالات فلسفية تتجاوز القائم إلى الممكن أن يكون ، فيحول الحضور الذات إلى حضور ينغمس في أثون المعنى المنساب عبر وصلات متنوعة لكنها تنقلك إلى عوالم خاصة ،  بما تذره من عبق و غذاء روحي ، و طقوس علاجية ساقها الأجداد حلا في استكشاف مجهول أفريقيا جنوب الصحراء ، كما يقول “المعلمون” الدرر في فضاء عطائها ، كيف لا و هي الموسيقى / الروح التي تخترق الوجدان لترسم عبر لوحات الجسد و الجذبة أشكالا تتنوع و تنتشر ما بين “لفودو” في “هايتي” أو “السانتريا” أو “الكانت ومبلي” البرازيلية ، لكنها تجد حضورها في غذاء الروح الإفريقي المنبعث من خلال زمهرير رياح الصحراء . 

فالجامع بين كل هاته الوصلات هو جوهرها و جذرها الإفريقي ، الذي حمله الأفارقة و أوطنوه في هاته الربوع خلال مرحلة تجارة “الرقيق” ، و لقد آثرت منظمة “اليونسكو” إدراجها ضمن التراث الإنساني العالمي ، سعيا من المنتظم الدولي إلى المحافظة عليها كموروث ثقافي ، و على ما تحمله من قيم  سامية و إنسانية تجاوزت الحضور الفني إلى الحضور الطقوسي كعلاج روحي في الثقافة الإفريقية ، و عملت مهرجانات عالمية ، و ضمنها مهرجان الصويرة ، الذي ينعقد تحت اسم مهرجان كناوة موسيقى العالم ، إلى المحافظة على هذا الموروث الثقافي و دمجه في إطار الثقافة العالمية مع أنماط موسيقية معاصرة كالريغي و ثراثية كالفلامنغو ….. 

مهرجان الصويرة الذي يرأس فعالياته المستشار الملكي المغربي “أندري أزولاي” ، و الذي رسخ ثقافة “اكناوة” و حضورها الراسخ في الذاكرة المغربية و الإفريقية ، بما يضمن استمرارية امتداد هاته الهوية الثراثية في الذاكرة و العمق الإفريقي ، يرسخ هذا الحضور / الامتداد فنانون كبار في هذا اللون الإفريقي الصوفي الذين حرصوا على ضمان كل مقومات وجوده و استمراريته و في مقدمتهم “عبد الكريم مرشان” و “عبد السلام علي كان” و “محمد القصري” ، إضافة إلى شبان شربوا من ينبوع “تاكنويت” و أقسموا على الوفاء للروح العظيمة التي تحملها هاته الريح الإفريقية المرتبطة برحابة فلسفة توارثها الأبناء عن الأجداد ، فأرسوا قنطرة الاستمرار روحا و عطاء فياضا لا ينضب أبدا . 

و ضمن هاته الواحة الفيحاء نما في صمت و لكن في عنفوان واحد من تلامذة هؤلاء الشيوخ الكبار ، عشق “تاكنويت” عشق الطفل لحليب الأم و نما في فضاء حنان دفئه الضارب في أثون عمق الصحراء و ينابيع الواحات و زخم الروح المتوارثة أجيالا ، إنه الشاب “محمد أمين” ، أو المعروف في الأوساط الفنية “الكناوية” باسم “أمين الدودي” .  

رأى الشاب “أمين النور سنة 1986 بمدينة ارتبط هواها بهوى “اكناوة” ، و صبيب هدير الطبول المدوية في “جامع الفنا” ، نشأ في وسط كناوي بامتياز وفر له دفئ النمو و الينعان الشادي مند نعومة أظافره ، عشق الحمراء ، و عشق لهيب نغمات الطبل الكناوي ، جال مختلف أصقاع بلاد المغرب بحثا عن كنوز هذا الفن المخفية في صدور كبار المشايخ المهووسين بحرقة الحمولة و الدوق و المعنى و الشدى .

شكلت سنة 1997 الولادة المنتظرة و الاختراق المأمول لفضاءات الجمهور من خلال مجموعة من الحفلات التي نظمها ، ليكمل بداية الانطلاقة و التألق مع التحاقه سنة 1999 بكوكبة جيل الرواد بالمدينة الحمراء ، لتعلن الحمراء عن ميلاد هرم كناوي هز مشاعر الحاضرين بعمق اللحن و الشدى و قوة و لهيب المعنى الصوفي الذي اخترق صمت مراكش ، ليصل سنة 2001 إلى المجالسة و العمل مع معلمين كناويين كبار عبر مجموع التراب الوطني  . 

عانق “محمد أمين” منذ سنة 2003 مهرجان الصويرة و خط خطوط ولادة صلبة أذهلت كل عشاق هذا الفن و منحته جواز مرور إلى الديار الأوربية في رحلة مع نجوم كناويين كبار ، و ليحط الرحال بعد العودة المتألقة بمدينة النجوم ، الدار البيضاء ، و يسامر في فضاءاتها سنة 2013 جيل العمالقة المغاربة و الأجانب فيهز منصات الشدو و الطرب و العبق المتدفق في محيط هادر من المعلمين الذين احتضنوه و أعلنوا للملأ أن لا خوف على “تكناويت” ما دام هناك جيل يزمهر عشقا لروح هذا الفن العريق الضارب جذوره في تاريخ المغرب و إفريقيا ، و ليتوج هذا الجهد بحصول الفنان “محمد أمين” على الجائزة الكبرى لمهرجان مراكش الذي

انعقد سنة 2015 ، و ليشد رحال التألق إلى الديار السويسرية سنة 2016 ممثلا لريح تكناويت الوطنية و حاملا تعابير روح الكلمات و شدى الألحان إلى قلب أوربا ، معلنا عالمية هذا الفن الذي أصبح محط تقدير و طلب كبار الفنانين العالميين ، و ليستمر الحضور الفاعل الحامل لنسيم روح هذا الفن فيصدع عبقه في العرائش و ورزازات فالصويرة .

لقد وقع هذا الحضور و هذا العطاء على شهادة ميلاد نجم فوق العادة ، قرر فأعلن الانطلاقة ، و ما خارت قواه و لا وهنت ، بل جعلت روح الحمراء و امتداداتها الإفريقية ، قيمة خالدة تعزز المسار و المسير ، ليصبح “أمين” بالفعل أمينا على استمرارية هذا الفن و رائدا من رواده الكبار على الرغم من كل المثبطات التي تعوق المسير و التي تتطلب من كل الجهات الرسمية و غير الرسمية المساندة و الدعم ، لأن المدعوم قامة من قامات عبق الصحراء و صوفية المعنى و روحية المقاصد التي جعلت اليونسكو تعتبر هذا الفن تراثا عالميا يجب أن يحظى بالدعم و الاحتضان و لن يكون ذلك ممكنا إلا من خلال احتضان أبنائه و رواده ممن عشقوه حتى الثمالة و سكبوا في روعة الإبداع من خلاله تعابير صدق ممتد من الصويرة إلى مراكش فتامبكتو فدكار … ، و لا زالوا صامدين على الرغم من قساوة الزمن لأنهم آمنوا بأن العشق امتداد لا ينتهي من معالم الروح إلا بزوال الروح فنجحوا في الاختيار و الامتحان و بقوة الإرادة المتقدة التي لا تقهر أبد الدهر على الرغم من مطبات العجز المادي الذي يبقى مسؤولية الجميع ضمانا لاستمرارية هذا التراث العريق عراقة إفريقيا و الصحراء و باعتباره سفيرا فوق العادة يحمل تقاسيم هاته الريح إلى كل بقاع المعمور .

التعليقات مغلقة.