عام البون….. عندما جوَّع الإستعمار المغاربة

بقلم عثمان الدعكاري 

كلمة البون في الدارجة المغربية يقصد بها “وصل”، حيث أخذت الكلمة على غرار العديد من كلمات الدارجة المغربية من الكلمة الفرنسية BON أو BON POUR والتي تعني باللغة العربية “ورقة لأجل” . وقد أخذ المغاربة هاته الكلمة من صيغتها الفرنسية ووظفوها في الدارجة المغربية فتم نطقها “البون” بإضافة “ال”.

تبقى مجاعة عام 1945 هي الأخطر على الإطلاق في تاريخ المغرب، إذ لم يشهد المغرب مثيلا لها منذ عهد المولى إسماعيل، كما قال المؤرخ الراحل جيرمان عياش الذي عايش ظروف المجاعة، إذ عانى المغاربة خلالها من استنزاف خطير للمواد الغذائية لتمويل المجهود الحربي الفرنسي خلال الحرب العالمية الثانية، مما أنعكس سلبا على الوضعية الإقتصادية والاجتماعية للمغاربة، حيث جعلت المجاعة المغاربة عاجزين عن دفع ما يتربص بهم من الأمراض والأوبئة، وتفشت العديد من الأمراض المرتبطة بالجوع وقلة النظافة، وسجل “التيفوس” 8168 حالة وضرب “الطاعون” ما يزيد عن 800 شخص وتسلل وباء الحمى الراجحة من الحدود الشرقية وأصاب 26.000 و290 شخصا.

 

في عام البون قسم المستعمر المغرب إلى منطقتين، واحدة عسكرية والثانية مدنية. وتمثلت العسكرية في المناطق التي عُرفت بمقاومة الاحتلال، والثانية هي المناطق التي أخضعها الاستعمار لسلطانه بشكل كامل، وكانت تلك المناطق تحظى بكميات أكبر من التموين على عكس المناطق “العسكرية”، التي كانت الأكثر تضررًا من المجاعة.

 

وخلال عام البون كانت بعض السلع مثل الصابون والقهوة من مظاهر الغنى والترف، حيث كان الأغنياء يلتقطون الصور مع فناجين القهوة. وكان صوت طحن بن القهوة يحيل إلى أغنى البيوت.

 

ولمواجهة هذه الظرفية اتخذت عدة إجراءات من طرف الإدارة الاستعمارية لم تكن في صالح السكان وإنما جعلت الوضعية أكثر سوءا. فقد نهجت سلطات الحماية مسلكا جديدا في التعامل مع أزمة الغذاء، ففرضت نظاما جديدا لتوزيع المواد الاستهلاكية الأساسية عرف’’ بنظام التموين’’ إذ أصبحت المواد تقتنى بأوراق الإذن، وسميت تلك الأوراق ’’البون’’. وتولت البلديات عملية التوزيع فوضعت دفاتر خاصة (كارنيات) أو بطاقات التموين ذات ألوان وأرقام، منها ما يتعلق بالزيت والبيض والسكر والشاي والقهوة والصابون والخضر كالبطاطس والوقود، ومنها ما يخص الأثواب والألبسة على اختلافها صوفا وقطنا وكتانا وخيطا، وكان التموين يوزع على المتاجر حسب الأحياء والدروب. وكانت إدارة التموين تغير لون البطاقة كل ستة أشهر، وكل تقطيع يصلح لاقتناء مادة واحدة. وقد سمي هذا العام ايضا بعام “بونتاف”، وعام “الصندوق”..

 

أبدع المغاربة وجبات من النباتات والحشائش لقهر الجوع، فلجأوا إلى كل ما تنبته الأرض من بقول وأعشاب، فاستخدموا مثلًا جذور نبتة يرنة أو ما تعرف بـ”البطاطا البلدية”، والتي كانت تغسل وتجفف تحت أشعة الشمس، ثم تطحن لاستخراج نوع من الطحين يستعمل لتحضير الخبز. كما أقبل المغاربة أيضًا بسبب الجوع على البلوط والخروب، واضطروا لصيد الجراد وأكله.

 

اضطر الكثير من الفلاحين أمام ما ألحقته المجاعة من أضرار إلى بيع أراضيهم أو تفويتها بأبخس الأثمان، لدرجة أن هناك من تنازل عن أرضه مقابل منحه ما يسد به رمق أبنائه، كما كثر الترامي على ممتلكات ممن انقطعت أعقابهم من الهالكين، ومن جهة أخرى ساق الكثير من الناس قطعانهم إلى الاسواق نظرا لقلة الكلأ وقلة الماء رغبة منهم في التخلص منها ولو بأبخس الأثمان. هذه الأوضاع المتردية بالعالم القروي دفعت الكثيرين إلى الهجرة نحو المدن بحثا عن ما يقيهم العوز، وقد حاولت السلطات الاستعمارية الحد من هذا التدفق على المدن عبر ربط الفلاحين بأراضيهم, فأقرت ما سمي بـ«الملك العائلي»، وهو ملك أرضي لابد منه لعيش العائلة، لا يقبل بيعه ولا تفويته أو رهنه (7 هكتارات). لكن هاته العملية باءت بالفشل نظرا لفقدان الفلاح إلى حيوانات الحرث، وكان الأمر يتطلب إجراءات وحلول عميقة، فحاول الاستعمار من جديد النهوض بالفلاحة عبر تحديث آلياتها وتقنياتها،إلا أن هذه الإجراءات ارتطمت بمعارضة المعمرين، إذ من شأنها أن تفوت عليهم فرصة قضم المزيد من الأراضي الجماعية.

 

كان الطحين المقدم في شكل مساعدات من الولايات المتحدة الأمريكية، والتي انخرطت في الحرب العالمية إلى جانب فرنسا هو المادة الأساسية التي حصل عليها المغاربة مقابل “البون”، وبالتالي فقد كان هذا العام هو بداية استعمال المغاربة للطحين “الفارينا” في تغذيتهم إلى اليوم، لم يقتصر أثر هذه النكبة الغذائية على أهل الحضر، بل طالت سكان البوادي الذين سموا سنة 1944 بعام “بونتاف” والسبب هو بوار الفلاحة بسبب الجفاف……

 

اللهم اسقِ عبادك وبهائمك، وانشر رحمتك، وأحي بلدك الميت.

التعليقات مغلقة.