عدوان غزة بين التوحش وضرورة أعادة صياغة منظومة القيم الكونية

محمد حميمداني

مشاهد عدة للقتل والذمار والتهجير من الأرض والوأد لكل القيم الإنسانية بقوة النار من أجل التركيع بسند أمريكي منقطع النظير وعجز عالمي على الحفاظ عن جزء ولو يسير من ماء وجه الإنسانية المقتول في فلسطين وغزة تحديدا.

 

كيف يمكن لعالم اليوم أن يتحدث غذا عن القيم والأخلاق الإنسانية التي رسمها الإنسان في مضمار تطوره التاريخي، بدءا من القرنين 15 و16م، وما حملته من تحولات فكرية وعلمية وفنية في إطار الحركة الإنسية.

تاريخيا حملت الحركة الإنسية شعار إعطاء صورة إيجابية للإنسان باعتباره أرقى الكائنات الحية، لكن هاته الحقائق التي رسمتها حركة التاريخ تم السطو عليها بقوة الاستغلال والتوحش الذي بلغ مداه ليصل حد ممارسة إجرام غير مسبوق وحرب إبادة لشعب عانى ولا يزال من كل أنواع الاضطهاد الدولي الظالم القاتل لكافة أشكال الجمال وصوره.

على الجهة المقابلة عرت وحشية العدوان على غزة التي استهدفت المدنيين، ولم تستثن الأطفال والنساء ولا كبار السن والصحافيين والأطقم الصحية وسيارات الإسغاف، ولا الحجر أيضا من خلال استهداف المستشفيات والمساجد والكنائس والمدارس والجامعات والمعاهد …..

حقائق تعرت لتميط اللثام عن ماكياج الإجرام الصهيوني والأمريكي والفرنسي والإنجليزي والغربي عموما، مع إعلان المنظمات الإنسية العالمية استقالتها عن التقيد بالشعارات التي طالما حملتها لتوقع بهاته المواقف شهادة موتها السريري، مع الاستمرار في العدوان على غزة بما حملته عدوان ضد البشرية والإنسانية والذي يعد جريمة حرب ضد الإنسانية لا تحتاج إلى توثيق ولا تدوين.

الأكيد أن ما بعد عدوان غزة لن يكون كما قبلها، ليس حول مصير الحرب، ولكن على مستوى تشكل العالم والتحول الذي أصبح يفرض نفسه لتغيير المعادلات والتي تشكل الحضور الظالم الذي جسدته وحشية العدوان وتحطيمه لكافة القيم الإنسانية والإنسية التي خطها عبر مساره التاريخي، نحو مزيد من التوحش وتكريس قيم القهر بدل قيم العدالة الكونية التي أقبرت كونيا وحملت بشائر الظلم المضاعف الذي عرى عورة الرأسمالية القائمة على الذبح من اجل المصالح وإدامتها.

فلسطين سجلت أسطر الشرف والكرامة، وغزة عرت كل الأنظمة المتوحشة منها والخانعة للتوحش أيضا والتي تحولت إلى عبد راكع للصنم الغربي ورقعة ضمن منضومة شطرنج الأمم الأمريكية.

في التأصيل التاريخي لقيم الإنسان والإنسية وربط صناع هاته القيم في إنتاج “الخطاب السياسي”، في العصر الحديث، من وجهة نظر مونتسكيو في علاقة السلطة بالحرية؛ بما يعنيه هذا الفهم من عمق إنساني يستحضر حضور الذات والنظم في بناء مستقبل الإنسانية بعيدا عن لغة الحدود، تفكير هدف إلى التأصيل الفعلي للحرية السياسية في إطار سلطة القوانين.

هاته السلطة القانونية التي أقبرت وأعلن موتها في العدوان الغربي الصهيوني على الشعب الفلسطيني وهو ما اقتضى هبة كونية للدفاع عن هذا التأصيل وهذا الحق المصادر بقوة أحدث ما أنتجته هاته المنظومة من آليات القتل والذمار والخنق للإنسان باسم الحرية المغتالة كونيا دفاعا عن العروش والمصالح.

عالم الاجتماع بيار بورديو، فوظيفة السلطة وفق مونتسكيو لا تنحصر في الضبط التام والسيطرة والتوجيه التامين للأفراد، لكن الأهم فيها هو السعي إلى ضمان الحريات مع الحرص على استمراريتها، ومن هنا انطلق شارل لوي دي سيكوندا مونتسكيو  Charles Louis de Secondat Montesquieu (1689م-1755م) لينتقد مختلف أنظمة الحكم القائمة على الاستبداد والظلم، قبل أن يقدم مفهومه لشكل الحكم العادل في كتابه “روح القوانين”.

الواقع الكوني ووقوف الإجرام الصهيوني متحديا كافة القوانين الكونية ومصادرا لحق الشعب الفلسطيني في الحياة والوجود، بدعم أعمى من قبل الصناع الأصليين للمجازر المرتكبة بلا خجل ولا رياء كما كان في السابق، حيث أسقطوا كل الأقنعة التي كانت تغطي وجوههم المرعبة في واشمطن تحديدا ومعها باريس ولندن وبون والغرب عامة، عبر إسقاط قرار يدعو لإيقاف المجازر الصهيونية.

الأكيد أن التاريخ يسير في خطه التصاعدي وغزة وفلسطين أيقظوا الضمير الكوني وفجروا الأقنعة الظالمة والقاتلة للإنسان والحياة التي كان تتستر ب”الهلوكوست”، فأصبحت هي “الهولوكوست” عينه، وهو ما عكسته موجة التضامن والتنديد العالمية التي وقفت موقف مراجعات لكل الأكاذيب التي بنيت عليها الصهيونية والتي تمارس إجراما أكثر من جرائم النازية نفسها.

الليبرالية في بداية تشكلها أسست للتغيير لفائدة الإنسان ولأجله، معلنة انتصارها على الإقطاع القائم على الاستبداد والعبودية وقهر حرية الفرد وحقوقه، لكنها مع التوحش عادت للاستبداد والاستعباد والقهر باسم الحق الذي لا يعني سوى التركيم والاحتكار والذبح من أجل تحقيق هذا الهدف. 

لكن تلك الحمولة الثورية حينها أسقطتها وقائع بدأت ملامحها الأولى تتضح في ضرب العراق وليبيا وأفغانستان…، فيما اعتبره منظروا توحشها بخلق “نظام عالمي جديد” قسموه لمحوري “الخير والشر”، لتعري وقائع فلسطين وغزة حقيقة واحدة عبر عنها “اغناسيو رامونيه” في كتابه “الجغرافية السياسية للفوضى” بقوله: إنَّ سادة العالم الجديد، ما عادوا يتمثلون برؤساء الدول ورؤساء الوزارات وزعماء الأحزاب السياسية وقادة التكثلات البرلمانية،  بل بمدراء الشركات متعددة الجنسية ورؤساء مجالس الإدارة وأرباب الرأسمال المالي وكبار المضاربين في البورصات والأسواق المالية، مؤكدا أن الدول ليست هي التي تملي سياساتها على رجال الصناعة والمال، بل هؤلاء هم من يملون على السياسيين السياسة المطلوب تنفيذها.

إننا أمام انهيار تام لنظومة القيم والأخلاق الكونية في زمن التوتاليتارية الليبرالية الجديدة المتوحشة التي تحولت إلى مجرد خادم أو مجرد نادل في مقهى الأسواق المالية.

فما رسمته غزة وفلسطين كحقائق هو أن عالم اليوم هو عالم التوحش بامتياز والذي أصبح سيد العالم الفعلي، في عصر الانهيار الحالي، عصر توحش الرأسمال المالي وتوتاليتارية الأسواق، وتوتاليتارية تقنيات الإعلام الجماهيري.

وضع كان قد وقف حوله عالم الاجتماع الفرنسي الراحل، بيار بورديو، حينما قال إن التوتاليتارية لم تعد صفة للدولة بل صفة للاقتصاد، وأنَّ التوتاليتارية الاقتصادية، بعكس التوتاليتارية السياسية، توتاليتارية مغلفة ولا منظورة، وتبسط هيمنتها “السرِّية” على العالم بأسره.

وضع يفرض على شرفاء العالم ليس الوقوف ضد الإجرام الصهيوني والتآمر الدولي والخنوع العبودي لأنظمة حكم جعلت العبودية للرأسمال المتوحش العالمي قاعدة توجه سياساتها الظالمة بالدعم أو الصمت فقط، بل ببناء منظمونة تصد للصهيونية بإعلان سلطة الحق في الأرض الفلسطينية والاعتذار لشعب قهر وسلب كونيا ليس بوعد بلفور وحده بل بالتآمر المباشر وتحريك الأساطيل لقتله وقهره، وتجاوز منطق النعامة في التعاطي مع قضايا العالم الذي لن يقبل بغير إسقاط كل المرجعيات المتوحشة التي غزته وزرعت الذمار والحراب في شوارع غزة ضد كل أشكال الحياة، ومزقت القواعد المؤسسة للعدالة والكرامة الإنسانية بضربها أسمى حق وهو الحق في الحياة.   

التعليقات مغلقة.