حول الصحافة في علاقتها بالكتابة والإبداع والنضال في مغرب أمس

عبد السلام انويكًة

بالأمس البعيد كان المعنى المحتمل والأوحد لأن تكون صحافيا، هو أن تكون، وبالضرورة، كاتبا يجيد الكتابة ويبدع فيها. ولهذا لم تكن الصحافة تنفصل عن الكتابة والإبداع والنضال. لم يكن سهلا أن تنشر في “العلم” و”المحرر” و”الاتحاد الاشتراكي” و”أنوال” و”بيان اليوم” و”النشرة”. ولم يكن غريبا أن تجد الكثير من الصحافيين أعضاء فاعلين في “اتحاد كتاب المغرب” والأحزاب والنقابات والجمعيات الحقوقية. وأن يكون في رصيدهم الإبداعي أكثر من مجموعة قصصية أو رواية أو كتاب بالمطلق.

 

 

 

فأن تكون صحافيا، معناه أن تكون كاتبا ومبدعا ومناضلا في آن. عبد الجبار السحيمي، سعيد عاهد، عبد الكريم غلاب. وأيضا عبد الحميد اجماهري، محمد الأشعري، زكية داوود، محمد العربي المساري، حسن نرايس، نجيب الرفايف. إضافة لمحمد الستوكي، يونس مجاهد، عبد الله البقالي، مصطفى العلوي، مصطفى اليزناسني، علي يعتة. دون أن ننسى نرجس الرغاي، فتيحة العيادي، الرقاص محتات، عمر المخفي، فهد يعتة، لحسن لعسيبي، علي انوزلا. فضلا عن سعيدة شريف، بديعة الراضي، طلحة جبريل، عبد العزيز كوكاس، عبد الناصر بنوهاشم، محمد بنعبد القادر، عمر بنعياش. وأيضا عبد الرحمان بنونة، أحمد جزولي، بوشعيب الضبار، حفيظة الفارسي، محمد بلمو، الطاهر الطويل. فضلا عن محمد بشكار، سميرة مغداد، نعيمة فرح، فتيحة النوحو،… 

 

والكثير الكثير من الأسماء البهية التي زاوجت بين الكتابة والإبداع والنضال. واعتبرت الصحافة كتابة لا مشافهة، وأثر دال لا يموت.

 

“سعيد عاهد” كان يجيد كتابة كل الأجناس الصحافية، يترجم وينشر الكتب. “لحسن العسيبي” أيضا كان في كل رمضان يختار موضوعا أنثروبولوجيا ويهدينا حلقات حوله. يصدرها بعد ذلك في كتب جميلة. كما “سيرة الدمع” و”تاريخ الزواج”.

 

هذه هي الصحافة التي أعرف، الصحافة الكتابية وليس الشفاهية. صحافة القلم لا صحافة اللايف.

 

هذه هي الصحافة التي كانت تسهم في تكويننا، ونحن ننتظر الملاحق الثقافية، وسلاسل رمضان.

 

في “العلم” و”الاتحاد الاشتراكي” و”أنوال” و”بيان اليوم” و”الميثاق الوطني” التي أدين لها بالكثير، اليوم. الكل بات صحافيا، وإن لم يكن قادرا على كتابة مقال وحيد من 500 كلمة؟. يكفي أن تضغط على اللايف لكي تصير صحافيا. ولا يهم ان تكون متمكنا من قواعد النحو. ولا أن تكون مطالبا بالكتابة أصلا.

 

أذكر جيدا أن الولوج إلى “العلم” أو “أنوال” أو “الاتحاد الاشتراكي” كان مشروطا بكتابة عشرات المقالات، والعمل كمراسل لسنوات، قبل أن يتحقق شرف الالتحاق بهيئة التحرير. أما الانتقال من قسم لآخر فتلك حكاية أخرى. هذه هي الصحافة التي أعرف. أما اليوم فما يسود هو صوحافة الشفاهية لا غير”.

 

هذا ما أورده عن كائن الصحافة المغربية، الأستاذ “عبد الرحيم العطري”، الباحث بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط. عضو مجلس الجمعية المغربية لعلم الاجتماع الإداري. وعضو اتحاد كتاب المغرب. صاحب عدة مؤلفات رفيعة المستوى في عدد من المجالات، منها نذكر: “دفاعا عن السوسيولوجيا”، “سوسيولوجيا الشباب المغربي”، “المؤسسة العقابية بالمغرب”،”صناعة النخبة بالمغرب”، “الليل العاري”، “قصص من أجل ياسمين”، “دفاتر الحرف والسؤال”، “الحركات الاحتجاجية بالمغرب”، “القارة السابعة”، “تحولات المغرب القروي”، “أسئلة التنمية المؤجلة”، “قرابة الملح”، “بركة الأولياء”، “بحث في المقدس الضرائحي”، “الرحامنة: القبيلة بين المخزن والزاوية”، “سوسيولوجيا الأعيان”، “مدرسة القلق الفكري”، “سوسيولوجيا السلطة السياسية”..الخ.

 

هذا ما أورده حول الصحافة المغربية. صاحب هذه المساحة من الفكر والكتابة والبحث والنشر والتأمل والنقاش والرأي والطرح والتطارح.. . على صفحته الرسمية بالفيسبوك يوم 12 أبريل 2024. متحدثا عن واقع الصحافة المغربية المكتوبة. وعن فعلها وتفاعلها ومستوى وقعها.

 

وكان ذات يوم قبل عدة سنوات قد دعا إلى تربية وحكامة رقميتين. لتجاوز تحديات الثورة الرقمية التي يشهدها العالم ويتأثر بها المجتمع المغربي إلى حد كبير. مشددا في لقاء نظمه آنذاك ملتقى وكالة المغرب العربي للأنباء. في موضوع “المجتمع المغربي والثورة الرقمية”. على ضرورة حل معادلات الترسبات الثقافية. وأشكال التمكين الاقتصادي والسياسي والهوياتي للمواطن. والتدبير المؤسساتي وغيرها.

 

وأوضح في هذا اللقاء الذي نظم بمقر وكالة المغرب العربي للأنباء بالرباط. أن استعراض التحديات لا يشكل نوعا من جلد الذات الجماعية. بقدر ما يكشف عن نوع من الانهجاس بالتألق الذي عرفته بلدان أخرى عرفت طريقها للنمو. مستشهدا بنموذج النمور الآسيوية التي آمنت بالعلم. وانتصرت للقيم. وصنعت الشرائح الإلكترونية وملكت صغار الفلاحين. وشجعت الإعفاء الضريبي، والقروض دون فائدة. وأنجزت إصلاحا اقتصاديا جريئا. وتحديثا سياسيا. فارتفع الدخل وانتفى وجود العاطلين.

 

ودكر بأن الإنسان عبر تاريخه الطويل، عرف لحظات مفصلية في حياته (اختراع النار، العجلة…). وتعرض لصفعات خلخلت يقينياته (صفعة كوبرنيك، صفعة داروين، صفعة فرويد، صفعة التكنولوجيا..). منتقلا من الآلة إلى النسق إلى اللامرئي. موجزا أعطاب القراءة في التعامل مع الثورة الرقمية. في انتصار خطاب النهايات (نهاية التاريخ، موت المؤلف، موت المعنى ..). وانتصار خطاب المظلومية والنوستالجيا. وخطاب التلبس الإيديولوجي الذي يوجد خارج النسق العلمي. وخطاب التضخم الهوياتي..إلخ. داعيا إلى تنسيب الحقيقة والتفكير بمنطق السياق الكفيل بإنتاج المعنى. مختزلا تحديات الثورة الرقمية بالنسبة للمجتمع المغربي. باعتبارها “إعادة كتابة النسق من جديد”. في التحديات الاقتصادية والسياسية (المواطن المدون والفاعل الرقمي). والثقافية، والقيمية والصحية وغيرها.

 

ما أثاره الأستاذ “العطري” في تغريدته، حول واقع الصحافة المغربية وأحوالها. وما هي عليه من مشهد أمام أعين الجميع. كان بتفاعلات وردود لباحثين وإعلاميين وحقوقيين متميزين. وقد جاءت في سوادها الأعظم مُثمنة منسجمة، منها هذه العينة: “والأمَرُّ من ذلك، أنهم يضعون قواعد جديدة للمهنة بتواطئ عفوي من الأغلبية التي تستهلك تفاهتهم. وهي قواعد يصبح على ما تبقى من صحافة جادة ان تجاريها. أو على الأقل أن تنتبه إليها حتى تضمن بقاءها!”.

 

“فعلا الكتابة الأدبية في الملاحق الثقافية، وإن لم تخل من وجهيات ومأذونيات بدورها. كان مطمحا. والأدب كان دائما جواز مرور إلى الكتابة الصحافية. “نجمي” كان شاعرا قبل أن يكون صحافيا. “الجماهري” كما ذكرت. “السحيمي”، صاحب “الفاركونيت”، “عبد الكريم غلاب” وغيرهم. حتى في مصر نجد الأخوين أمين، يوسف إدريس، نجيب محفوظ في الأهرام وغيرهم.

 

اليوم لا شيء في “الصوحافة” غير لازمة “شنو يمكن تقول لينا..”. مؤسف ما آلت إليه الصحافة المغربية!!. “أوجزتم وأبدعتم. بالفعل نعيش صحافة اللايف، اليوم، بكل ما تحمل من مخلفات وعاهات اجتماعية ممجوجة. ولذلك لا أستغرب انزواء كل المبدعين بعيدا عن أشكال الحضور السمجة اليوم..

 

للأسف”، “بالفعل يا أستاذ فما نشهده اليوم لا يمت للصحافة بصلة. والأقلام الجادة والمهنية ذات المصداقية انزوت بعدما استشرت الضحالة والبوز الخاوي. بل أصبحت تتحرج من القول إنها تنتسب لهذه المهنة. التي أضحت مهنة من لا مهنة له”.

 

“نعيش اليوم فيما يسمى بمجتمع الإعلام. حيث انتشرت وسائل الإعلام الحديثة والإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي. وظهر ما يسمى بالمواطن الصحافي. فكان لزاما أن تتطور الصِّحافة لتواكب تطور هذه الوسائط. وتستجيب لمتطلبات عصر الصورة. أو لنقل عصر المرئيات. هذا ما جعل سوق الكتابة كاسدا. لا من حيث منتجيها. ولا من حيث مستهلكيها.. وعلى العموم فقد فهمت فالحصول على بطاقة الصحافي لا يكفي لجعل المرء صحافيا”.

 

وعن هذه الردود ارتأينا ختاما ما جاء من قِبل أحد أعلام الإذاعة الوطنية بالمغرب. ويتعلق الأمر ب”الحسين العمراني”. وهو اسم غني عن كل تعريف وقد أورد: “..مجموعة من الأسماء ذكرتها (في شارة منه لتغريدة الأستاذ العطري). كان لها حضورها الصحافي المتميز أيضا. من خلال الإعلام السمعي والبصري سنوات الستينات والسبعينات. كان للكتاب المغاربة نوافذ إذاعية يرسلون منها خطابات إلى عامة المواطنين. نذكر مثلا “حديث الظهيرة”، “حديث الأربعاء”، “قصة الأسبوع”، “ناشئة الأدب”. وبرامج أخرى كانت رسائلها اجتماعية و ثقافية وسياسية وفنية ثراثية. إلى جانب تمثيليات ومسلسلات إذاعية لا زالت راسخة في الذاكرة. من تأليف روائيين كبار. كانت أسماء فاعلة بحق ومعهم ظهر أسلوب جديد. وحديث في الكتابة. تميز فيها كل من محمد برادة، عبد الجبار السحيمي، مصطفى القباج، عبد الرفيع الجواهري، أحمد عبد السلام البقالي. إضافة إلى ادريس الجاي، وجيه فهمي صلاح، أحمد سهوم. إلى جانب أسماء راسخة في الذاكرة الإذاعية والتلفزية. استفادت من احتكاكها بهذه الأسماء. كالماجدولي، البوعناني، أحمد الريفي، خالد مشبال، عبد الله شقرون واللائحة طويلة.

 

فالصحافة لا يمكن فصلها عن الثقافة والفكر والتاريخ والفلسفة وعلم النفس. أن تكون صحافيا لا يعني أن تكون من خريجي المعاهد الصحافية.

 

والتاريخ أتبث أن خريجي الجامعات هم الأقوى. وخير مثال على ذلك الٱن. الأستاذ “العطري” الذي أوافقه في كل ما قاله. فمرجعيته جعلته متميزا في عمله الصحافي. والذي يصل بمهارته في الحديث إلى المتلقي. وبلغة الإقناع التي يتواصل من خلالها مع الجميع..”.

التعليقات مغلقة.