التيارات الاسلامية روح انساني متبادل في جميع العصور

يحاول البعض إبراز الإقصاء بين التيارات والمذاهب الإسلامية على أنّه الأصل، وأن روح الإنسانية والودّ المتبادل والتسامح كان هامشاً؛ والحقيقةُ أن تقرير العلماء كافة أنه “لا يجوز تكفير أحد من أهل القِبلة” كان بمثابة القاعدة التي تدحض تلك الدعوى، ذلك أنّ العلماء فرقوا بين الخلاف العلمي داخل حلقات الدرس وبين الإقصاء والتكفير والهجر، فضلا عن التدخل لتغيير المشهد العلميّ باليد.

وفي هذا المقال نسعى جاهدين لإماطة اللثام عن فلسفة الخلاف بين المذاهب الإسلامية وأفراد الجماعة العلمائية، وحرص العلماء على إبقاء الخلاف العلمي داخل إطار الدرس العلمي دفعا لأي اقتتال أهلي، رغم أن ذلك لم يتحقق أحيانا بسبب تأثر الخلاف العلمائي بالدوافع المصلحية شخصية ومذهبية، وأيضا بالعوامل السياسية جراء توظيف السلطة لهذا الخلاف وإحداثها قطاعا تابعا لها بين جماعة العلماء.

يُعدّ الخلاف الأُصوليّ والفرعيّ طبيعيّ في المذاهب والأديان، إذ إنّ النصوص السماوية تارة تكون قطعية دلالةً أو ثبوتاً، وتارة تكون ظنيّة دلالةً أو ثبوتاً، ومن ثمّ تختلف أنظار المجتهدين فيها. هذا إذا كان الحديث عن المسألة العلمية الصرفة منزوعة الصلة بالمحيط والسياق الذي ربما تعتريه عوارض بشرية ومصالح شخصية، ونحو ذلك من مؤثرات في فهم النصوص تتسبب في الاختلافات بين الجماعة العلمية.

 المشكل التي أزّمت  المشهد الدينيّ هي ما بعد الخلاف العلمي الطبيعي؛ فإذا كان العقل الفلسفي والكلاميّ والفقهيّ/ العلميّ عموماً رسم مراتب الخلاف ووضع ضوابطه في مباحث أصولية وكلامية، فإنّ ثمة مساحة متعلقة بما يترتب عن ذلك الخلاف العلمي مجتمعياً، حيث قد يؤدي -إذا لم تتم إدارته داخل الجماعة العلمية أخلاقياً- إلى ارتدادات عكسية تؤثر على لحمة المجتمع وتماسكه، كما حدث مرارا.

فالفقيهُ/ المتكلم/ العالمُ في الزمنِ الأوّل عندما تكلّم عن المخالف عقدياً أو فقهياً، ورماه بالفسق أو الضلال أو الابتداع في بعض المسائل؛ فإنّما فعل هذا داخل الأروقة العلمية وغالبا من منظور علمي، ثم حصر استيفاء الحقوق في يد السلطتين القضائية والتنفيذية، كي لا يظنّ الناس أنّ من حقهم تعقّب المذنبين وإقصاءهم، ومن باب أولى عدم تعقب علية القوم من العلماء من كافة المذاهب بسبب خلاف علميّ.

وبعبارة” شهاب الدين القرافيّ “(ت 684هـ) في كتابه ‘الإحكام‘؛ فـ”إنما يُحتاج إلى الحاكم (= القاضي) في الصور المجمع عليها إذا كانت تفتقر إلى نظر واجتهاد وتحرير أسباب، كفسخ الأنكحة؛ أو كان تفويضُها للناس يؤدي إلى التهارجِ والقتال، كالحدود والتعازير”. وكرر القرافيّ هذا المعنى كثيراً في غير موضع، مُبررا ذلك بقوله: “ولو جُعل لعامّة الناس التحدّثُ (= التصرف) فيه لفسَدَ الحالُ وساء المآلُ”.

والرجوع إلى القاضي هنا ليس نهائياً أيضاً بل لتكييف الحالةِ فقهياً وإصدار الحكم فيها، ثمّ تأتي مرحلة التنفيذ بيد السلطة التنفيذية. وأشار” القرافي” -في ‘الذخيرة‘- إلى هذه اللمحة؛ فقال: “وليس كلّ الحكام (= القضاة) لهم قوّة التنفيذ، لا سيما الحاكمُ الضعيف القدرة على الجبابرة فهو يُنشئ الإلزام ولا يَخْطُرُ له تنفيذُه لتعذّر ذلك عليه؛ فالحاكمُ ليس له إلاّ الإنشاء، وأمّا قوّة التنفيذ فأمرٌ زائد على كونه حاكماً”.

التعليقات مغلقة.