قدرة الوحدة على تغيير الدماغ والجسد

إعداد مبارك أجروض

ربما يكون لدى الإنسان عزوف عن مخالطة الناس في المناسبات الاجتماعية، وأحياناً يشعر بالسعادة عندما تُلغى بعض هذه المناسبات. وأحيانا يقضي عدة ساعات وحده. حتى أنه في العديد من المرات يذهبت إلى مكان منعزل للتأمل الصامت لمدة ليست بالقصيرة. قالت الكاتبة أنيلي روفوس: “عندما يعاقب الوالدان أبناءهم في برامج التلفزيون ويأمرونهم بالذهاب إلى غرفهم، كنت أشعر بالحيرة. لقد أحببت غرفتي، وكان المكوث في غرفة وراء باب مغلق يعد متعة ومكافأة بالنسبة لي. وكان العقاب بالنسبة لي أن يطلبوا مني أن ألعب بإحدى الألعاب مع قريبي لويس”.

ميول اجتماعية كهذه غالباً ما تكون بعيدة عن المثالية. حيث تشير وفرة من الأبحاث إلى الآثار الضارة للعزلة والوحدة، التي تعتبر مشكلة صحية عامة وخطيرة في بعض البلدان التي تشهد تسارعاً في سن شيخوخة سكانها، لكن الحديث عن العزلة والوحدة بوصفها “وباء” يعد تضخيماً مبالغاً فيه حسب رأيي المتواضع، فلقد وجدت دراسة أجريت عام 2018 على 20000 أمريكي، أن 45% من المشاركين في الدراسة يشعرون بالوحدة، وتبين بأن معظم الأشخاص الذين يعانون من الوحدة ينتمون إلى فئة الشباب في العشرينيات من عمرهم ويعانون من حالات صحية مختلفة.

وقالت جوليان هولت-لوندستاد، أستاذة علم النفس وعلم الأعصاب في جامعة بريغهام يونغ: “إنه أمر محزن للغاية عندما لا نكون جزءاً من مجموعة”. “يفرض هذا علينا أن نعتمد على أنفسنا في كل شيء، دون مساعدة الآخرين، مما يضع دماغنا في حالة تأهب، وهذا يضع باقي الجسم في حالة تأهب”. “البقاء في حالة اليقظة هذه، تتسبب بدرجة عالية من الإجهاد، مما يعود على الجسم بالعديد من الأضرار الصحية، إذ يمكن أن تساهم هرمونات الإجهاد مثل الكورتيزول والنورادرينالين في الأرق وزيادة الوزن والقلق على المدى الطويل، وبالتالي نشوء أمراض جسدية ونفسية مرتبطة بهذه الأعراض.“

وأشارت هولت-لوندستاد إلى أن وباء Covid-19 ربما يكون أكثر التجارب المجهدة التي مر بها الناس في حياتهم. لقد انقلبت الحياة اليومية، وارتفعت البطالة بشكل كبير، وأصيب أكثر من 6 ملايين شخص حول العالم. هذه التحديات الهائلة تجعل الإنسان يسعى للحصول على طمأنة ودعم العائلة والأصدقاء.  كما درس الباحثون في مركز أمراض Rush Alzheimer في شيكاغو 823 من كبار السن خلال فترة أربع سنوات. استخدموا خلالها استبيانات لتقييم الوحدة، وتصنيفات الخرف ومرض الزهايمر، وكذلك اختبارات تفكير وتعلم وذاكرة المشاركين، وعينوا درجة الشعور بالوحدة بين 1 و5. وجدوا أن عامل خطر الشخص لمرض الزهايمر زاد بنسبة 51% لكل نقطة على المقياس.

من جهته قال تورهان كانلي، أستاذ علم الأعصاب التكاملي في جامعة ستوني بروك: “الوحدة يمكن أن تكون مؤشراً واضحاً على التدهور المعرفي المتسارع. لا يُفهم تماماً كيف ترتبط الوحدة مع المشكلات الصحية. ربما يكون السبب عدم اعتناء الشخص الذي يشعر بالوحدة بنفسه بما فيه الكفاية مما يؤثر على صحته بشكل عام.” وأضاف: “قد تدفع الوحدة المرء إلى عدم اتباع نظام غذائي صحي، والشعور بالقلق، وعدم انتظام أوقات نومه، وهذه عوامل تؤثر على الصحة على المدى الطويل”.

وفي دراسة طويلة الأمد، درس العلماء منطقتين في الدماغ تتعلقان بالإدراك والعاطفة، ووجدوا الجينات المرتبطة بالسرطان وأمراض القلب والأوعية الدموية والأمراض الالتهابية. وخلصت الدراسة إلى أن شبكة الروابط بين هذه الجينات المختلفة يمكن أن تتأثر بشكل مباشر بالشعور بالوحدة. واقترح بحث آخر أجري في جامعة كاليفورنيا بأن إطلاق بعض الهرمونات تحت ضغط الوحدة المستمر يمكن أن ينشط جينات معينة مرتبطة بالمشكلات الصحية، وفق ما ورد في موقع “سي نت” الإلكتروني.

وأي اضطراب بشري يمكن أن يكون له علاقة بخلل وظيفي ما. وإذا امتنع شخص عن الاهتمام بالناس وقطع كل اتصاله بهم، فيمكن أن يشير ذلك إلى أنه يعاني من “إهمال مرضي” للعلاقات الاجتماعية. لكن عدم المخالطة الاجتماعية الإبداعية تختلف عن ذلك اختلافاً واضحا. للحقيقة، يقول فيست: “يوجد خطر لدى الناس الذين لم يمارسوا الوحدة أو العزلة على الإطلاق”. ومن الصعب أن تكون مسترخياً بشكل كامل، ومدركاً لذاتك، ومتأملا في حياتك، دون ممارسة العزلة الاجتماعية من وقت لآخر.

فضلاً عن ذلك، يميل الانطوائيون إلى أن تكون لديهم صداقات أقل لكنها أقوى. وهو الأمر الذي يرتبط في الغالب بسعادة أعظم. وكما هو الحال مع أشياء كثيرة أخرى، للكيف أفضلية على الكم. فتقوية عدد قليل من الصداقات الوثيقة بدون الشعور بالحاجة إلى أن تملأ حياتك بالثرثرة مع كثير من الناس، قد تكون أفضل لك على المدى البعيد. وهكذا، إذا كانت شخصيتك تميل إلى عدم المخالطة الاجتماعية، فلا ينبغي أن تشعر بأنك تحتاج إلى تغيير. لكن بالطبع، يأتي ذلك القول مصحوباً بتحذيرات. وطالما كنت تمتلك علاقات اجتماعية منتظمة، فأنت تختار العزلة بدلاً أن تكون مرغماً عليها، حيث أن لديك على الأقل بضع أصدقاء جيدين. وتعد عزلتك أمرا جيدا لراحتك، وإنتاجيتك، فلا جدوى من أن ترهق نفسك في محاولة تغيير طبيعتك الشخصية. ولذلك، كن حراً في تحديد مدى وطبيعة علاقاتك الاجتماعية، فهذا أمر عادي يقره علماء النفس.

 

 

 

 

 

   

التعليقات مغلقة.