لسان الدين بوخبزة: الغيفاري المغربي الأخير

الأمين مشبال

احتضنت مؤخرا إحدى مكتبات تطوان حفل توقيع كتاب يندرج بشكل ما وفي آن واحد، ما بين السيرة والتاريخ والتحقيق الصحفي، بعنوان: «Quand Lissan S’appelait Fernando- Vie et mort d’un internationaliste marocain dans la guérilla salvadorienne»” الذي صدر مؤخرا عن دار النشر الفرنسية L’Harmattan، المتضمن لسيرة لسان الدين بوخبزة الذي أصبح معروفا باسمه الحركي فرناندو بعد التحاقه ب “جبهة فارابوندو مارتي” أواخر سنة 1983 إلى أن توفي في إحدى المواجهات المسلحة في 19 يناير1986. تميز اللقاء الذي أطره الأستاذ عبد الكريم الشيكر بحضور الباحثة ليسيل ديماس Lucille Daumas، ووالدة الراحل لسان الدين، وبعض أقاربه، ومجموعة من أصدقائه الذين عايشوه خلال فترة دراسة الطب بالرباط، بشهادة بعض ممن عرفوه وأيضا ببعض التساؤلات حول مسيرة حياته والعوامل التي من الممكن أن تكون قد تحكمت في اختياراته.

البحث عن الذات

حينما أخذ الوعي السياسي للسان الدين في التشكل (1972-1973) وهو في بداية دراسته بكلية الطب بالرباط، كان العالم يعيش على وقع حرب ضروس (سياسية وإيديولوجية وعسكرية أحيانا) ما بين المعسكر الاشتراكي بزعامة الاتحاد السوفياتي من جهة وما بين الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الغربيين من جهة ثانية.

 

 كانت تلك الحقبة التاريخية تتسم بحرب الفيتنام التي ستلحق الهزيمة بأكبر قوة عسكرية واقتصادية في العالم والمتمثلة في الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك بموازاة مع حرب عصابات وشبه نظامية أحيانا ضد الأنظمة الموالية لأمريكا في اللاووس وكمبوديا، من طرف حركات ماركسية مسلحة. أما العالم العربي الجريح بعد هزيمة يونيو1967، فقد شكلت العمليات المسلحة للمقاومة الفلسطينية بصيص أمل في استعادة كرامته، كما أن فئات واسعة من الشباب العربي وجدت ضالتها في الخطاب اليساري للجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين الذي أعلن نهاية صلاحية البرجوازية الصغيرة كطبقة قادرة على إنجاز التغيير وتحقيق طموحات الشعوب العربية في التحرر السياسي والاقتصادي، مع التأكيد أنه لا بديل عن العنف الثوري وحرب التحرير الشعبية الطويلة الأمد للوصول إلى الأهداف المنشودة.

 

تلك الطروحات لم تكن مجرد نظريات وصيحات في مدرجات الجامعات، بل تحولت إلى حقيقة ملموسة، بل وأسطورة حية نسجها بدمائه طبيب أرجنتيني شارك جنب كاسترو ورفاقه في حرب عصابات بجبال كوبا، أدت إلى الإطاحة بنظام باتيستا الموالي للولايات المتحدة الأمريكية، لكنه بعد نجاح الثورة تخلى عن مسؤولياته في الدولة وكل امتيازاته، واختار الثورة بدل الدولة، ويقود تجربة حرب عصابات جديدة تروم إسقاط  النظام البوليفي الحليف للولايات المتحدة الأمريكية، مرددا قولة أصبحت نبراسا للعديد من المناضلين الأمميين في العالم: “ينبغي أن نصنع أكثر من فيتنام”. لكن رغم كون تلك المحاولة باءت بالفشل وباعتقاله وإعدامه، فإن النهاية الدرامية لغيفارا في جبال بوليفيا في 9 أكتوبر1967 جعلته يهزم الموت، ويصبح رمزا ملهما لملايين المناضلين فوق الكرة الأرضية.

 

في المغرب، كان النظام بعد تمكنه من استرجاع المبادرة السياسية، بعد محاولتين انقلابيتين كادتا أن تعصفا به (10 يوليوز 1971 ثم 16 غشت 1972)، قام بحظر الاتحاد الوطني لطلبة المغرب في 24 يناير1973، ثم اعتقال عشرات من أطر ومناضلي الحركة الماركسية –اللينينية (فيما عرف لاحقا بملف النقابة الوطنية للتلاميذ)، وشن حملة اختطافات شملت آلاف المناضلين الاتحاديين والمتعاطفين معهم إثر انطلاق مجموعة من العمليات المسلحة لجناح الفقيه البصري داخل الحزب والتي قادها ميدانيا “عمر دهكون” و”محمد بنونة” فيما عرف بحركة 3 مارس.

 

من جهة ثانية كانت الحركة الطلابية المغربية قد دخلت فترة جزر وانكماش بعد مرحلة من الحيوية النقابية والصراعات الفكرية والسياسية بلغت أوجها في وصول ما عرف ب «جبهة الطلبة التقدميين” (الواجهة السياسية لتنظيمي “إلى الأمام” و”23 مارس”) إلى قيادة الاتحاد الوطني لطلبة المغرب إبان مؤتمره الخامس عشر الذي انعقد في غشت 1972.

 

باختصار، لما التحق لسان الدين بجامعة محمد الخامس في الرباط في الموسم الدراسي 1972-1973، قادما من تطوان بغية دراسة الطب لم يكن مناضلا معروفا في الحركة التلاميذية بتطوان، وهو نفس الاختيار الذي استمر فيه إبان مرحلة الدراسة الجامعية إذ ظل يقتصر على المشاركة ومساندة النضالات الطلابية دون أن يقوده ذلك للالتزام التنظيمي ضمن إحدى الإطارات السياسية اليسارية السرية أو العلنية التي كانت تنشط داخل القطاع الطلابي آنذاك.

تغيير العالم

في منتصف سنة 1982، كان لسان الدين قد أكمل دراسته وتم تعيينه طبيبا بمدينة العرائش وحينها غادر المغرب متوجها نحو سوريا ثم لبنان قصد إجراء تدريبات عسكرية على استعمال السلاح وتكتيكات حرب العصابات داخل معسكر تابع للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بقيادة جورج حبش. هناك سيقضي بضعة أشهر استفاد فيها من التكوين العسكري والإيديولوجي، لكنه بعد عودته للمغرب عبر لبعض أصدقائه عن عدم ارتياحه للأجواء السياسية داخل التنظيم الفلسطيني، كما أنه بعد الغزو الاسرائيلي للبنان وحصار بيروت صيف 1982، أصبح خوض عمليات مسلحة انطلاقا من الاراضي اللبنانية غير ممكن عمليا، فأضحى انضمامه للمقاومة الفلسطينية لا يحقق رغبته الدفينة في حمل السلاح وخوض تجربة حرب العصابات.

 

بعد مرور سنة وبضعة أشهر من التداريب في معسكرات الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، توجه لسان الدين، وكان عمره آنذاك 27 سنة، نحو بلد صغير في أمريكا الوسطى، لا تتجاوز مساحته 21 ألف كلم مربع، وعدد سكانه 5 ملايين نسمة. لكن أهميته الاستراتيجية بالنسبة للسان الدين بوخبزة، ومجموعة من المناضلين الأمميين، تتمثل في كونه أضحى بعد نجاح الثورة السندينية بنيكاراغوا، يمثل جبهة متقدمة للصراع ضد الأنظمة الديكتاتورية العسكرية في أمريكا اللاتينية التي تحظى بدعم الولايات المتحدة الأمريكية، وبالتالي يمتلك أرضية نموذجية لتحقيق نداء غيفارا في غشت 1967 أمام مؤتمر التضامن مع شعوب القارات الثلاث المنعقد بهافانا: “يتعين خلق فيتنامان أو ثلاثة لإجبار الامبريالية على تشتيت قواها”.

 

هكذا قضي لسان الدين بوخبزة أزيد من ثلاث سنوات في جبال السلفادور (من نهاية 1983 إلى مصرعه يوم 19 يناير 1987)، في ظروف قاسية من حيث التغذية والمواجهات العسكرية والتنقل المستمر. وقد أجمعت شهادات من عايشوه خلال تلك السنوات على شجاعته وتواضعه الشديد، وعلى روحه المرحة، وإنجازه لكافة المهام العسكرية (كان يحرص على أن يكون في الخطوط الأولى للمواجهة) إضافة لمهامه كطبيب، حيث ظل يرفض دوما أن يقتصر دوره على الجانب الطبي، وهي الخصال التي جعلته يحظى بتقدير ومحبة رفاق ورفيقات دربه بالسلفادور.

 

المثير للانتباه في سيرة لسان الدين بوخبزة، كما روتها الكاتبة ليسيل داوماس، كونه ظل على مدى سبع سنوات من دراسة الطب بعيدا عن أي نشاط يؤشر لانتقاله من طور القناعات الفكرية والنظرية المجردة إلى الممارسة السياسية بصعوباتها وتعقيداتها ومخاطرها. وهنا يحق لنا أن نتساءل عن العامل الحاسم أو déclencheur الذي جعله يخلع بذلة الطبيب ليرتدي الزي الحربي؟ فهل كان لسان الدين ينتظر أن يتخرج طبيبا، على غرار تشي غيفارا، ويكتسب خبرة ميدانية في المجال حتى يتم قبوله بسهولة في إحدى المجموعات المسلحة الثورية بأمريكا اللاتينية أو فلسطين؟ أم ترى كان لقاؤه وقصة حبه مع المناضلة السويسرية ساندرابداية سنة 1980 (كانت لها قنوات اتصال وطيدة مع شبكات دعم الحركات اليسارية المسلحة المناهضة للاستعمار وللولايات المتحدة الأمريكية) المنبه الذي أيقظ داخله الحلم الغيفاري وجعله يتحدى الحواجز الثقافية واللغوية والجغرافية ليذهب ليقاتل ويلقى مصرعه في السلفادور؟

 

ختاما إذا كانت الكاتبة ليسيل ديماس قد توفقت إلى حد بعيد في إعادة رسم شخصية لسان الدين بوخبزة في المرحلة السلفادورية استنادا على شهادات سلفادوريين ومناضلين أمميين عرفوه عن قرب، وجعلتنا نتعاطف مع المنحى الدرامي في حياته ونقدر شجاعته ووفاءه لقناعاته، فإن المأخذ الرئيس على هذه السيرة فيما أرى، تجاهلها للتحليل النفسي للتركيبة السيكولوجية لشخصية لسان الدين وللعوامل اللاشعورية التي ربما كانت تقف خلف بعض اختياراته، ونزوعها إلى تحنيط التجربة السياسية للسان الدين ووضعها خارج الزمان لتصنع منها أسطورة ونموذجا لا يخضع لأحكام التاريخ وللسياقات التي يصنع فيها المناضلون تجاربهم الملموسة. كيف ذلك؟

 

حين تتحدث الكاتبة عن السياق السياسي المغربي في نهاية السبعينيات والثمانينيات الذي أثر بدون شك في الوعي السياسي للسان الدين بوخبزة الذي كانت إحدى مميزاته الاختطافات والمحاكمات التي تعرض لها مناضلو الحركة الماركسية اللينينية المغربية في سبعينيات القرن الماضي، وبالأحداث الدامية التي تلت إضراب 20 يونيو 1981، المنعطف التاريخي الذي أخذ يعيشه نضال الشعب المغربي من أجل الديمقراطية السياسية والاجتماعية وكرامة المواطن، بارتباط ديالكتيكي مع دخول المغرب من جهة معركة استرجاع أقاليمه الصحراوية، وتبلور قناعة ضرورة القطيعة مع الخط الغيفاري والبلانكي الذي أدى رغم التضحيات الجسيمة لمناضليه إلى الطريق المسدود، واستبداله بخط النضال الديمقراطي كاختيار إستراتيجي من جهة ثانية، وهو الوعي السياسي الذي جعل القوى الديمقراطية  المغربية تتجنب فخاخ “الربيع العربي” وتركز مطالبها على محاربة الفساد وتطوير المكتسبات الديمقراطية.

 

من جهة ثانية لم تعر المؤلفة اهتماما (رغم كونها كانت قريبة من الأحداث) لبداية تبلور وعي نقدي لدى العديد من أطر ومناضلي الحركة الماركسية اللينينية داخل السجن المركزي بالقنيطرة وخارجها بداية 1980 من قضايا حارقة آنذاك من قبيل العنف الثوري، والعمل السري، وديكتاتورية البروليتاريا، ومآل التجارب الاشتراكية في العالم خصوصا في الصين والاتحاد السوفياتي.

 

التاريخ والحاضر والاسطورة

جميل جدا، بل ومن الضروري، السعي لكتابة الماضي حفاظا على الذاكرة الجماعية ووفاء لتضحيات مئات بل آلاف المناضلين الذين أدوا الثمن غاليا أو وهبوا حياتهم من أجل تحقيق حلم جميل يتمثل في إقامة مجتمع يقضي على استغلال الإنسان لأخيه الإنسان ويوفر العيش الكريم وحرية الكلمة والتفكير لأبنائه وبناته. لكن حذار من إغفال أسئلة الحاضر. فالسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح: أي نوع من الكتابة نريد تقديمها للأجيال الحالية والقادمة؟ هل كتابة تمجيد الذات أم جلدها؟ أم كتابة تقترب في حدود الإمكان من الموضوعية لأنه من البديهي أن الحفر في ذلك التاريخ المضطرب والأليم في آن واحد لا يروم فقط تكريم ذكرى ضحاياه أو أبطاله (حسب زاوية النظر)، بل مساعداتنا على اختياراتنا الآنية وتلافي تكرار بعض التجارب السابقة التي وصلت إلى طريق مسدود.

 

فهل كانت تلك القراءة الأحادية ومحاولة إعادة تشكيل صورة ومسير لسان الدين بوخبزة، بمعزل عن سياقها ومساءلة مآلها، وعبر تجاهل لمحطات تاريخية من تاريخ المغرب والعالم، مجرد قصور في التحليل أم مطية للمؤلفة بغية تبرير الاختيار الأممي الذي تتبناه بحكم نظرتها التروتسكية للتاريخ والعالم؟

التعليقات مغلقة.