تازة: بين التصوف الشعبي وفسيفساء فروع الزوايا

عبد السلام انويكًة

 

أثار تصوف المغرب الشعبي وزواياه اهتمام الباحثين الاستكشافيين الاستعماريين الأجانب، الكثير من الكتابات والنقاشات، لِما كان عليه المشهد من غرائبية وسلطة روحية ومفارقات.

ولعل ممن توجه بكبير عناية من الأوروبيين للموضوع منذ نهاية القرن التاسع عشر، نجد الفرنسيين، رغبة منهم في تتبع خيوط فعل هذه الكيانات الرمزية، وكذا طبيعة نشاطها من خلال نبش جدورها وكشف محتواها.

وإذا كانت بلاد المشرق كما يقال، أرض رسل وأنبياء، فالمغرب أرض صلحاء وأولياء، وهو ما يتبين جليا من خلال أركيولوجيا رباطات وزوايا وأضرحة ومزارات هنا وهناك بين مدن وبوادي مغربية وجهات.

 

ولا شك أن المجال يشكل مدخلا من مداخل تاريخ المغرب، وذاكرة مدنه وجهاته منذ فترة، لِما له من وقع في المجتمع، وامتداد في الزمن، وأثر في النفوس، علما أن الزوايا كوعي جمعي ومكان كانت عبر فترات من زمن المغرب، أداة سلطة لتدبير شؤون المخزن عبر جهات البلاد، خاصة النائية منها.

مع ما يسجل في هذا الاطار من محدودية الدراسات العلمية الإنسانية التاريخية عموما، تلك التي تناولت الموضوع وفق ما ينبغي من تحليل وتمحيص واحصاءات تخص زوايا البلاد، رغم ما حصل من تراكم نصوص رفيعة ذات علاقة، منها أساسا كتاب التصوف والمجتمع ل “عبد اللطيف الشاذلي” رحمه الله، وهو عمل بحثي تأسيسي بكل ما في الكلمة من معنى باعتباره أطروحة جامعية بقدر كبير من الجهد العلمي والتوثيق والقيمة المضافة والسبق عن جامعة مغرب ثمانينات القرن الماضي، مؤلف من منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، قبل أزيد من ثلاثة عقود.

فضلا عن كتاب مرجع رفيع آخر عن فترة الحماية الفرنسية بالمغرب حول التاريخ الديني بالمغرب من خلال الزوايا، ل”جورج سبيل مانوهو” من منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط أيضا.

 

ويسجل حول مساحة التصوف الشعبي في علاقة بزوايا المغرب أن أول إحصاء شمله كان خلال ثلاثينات القرن الماضي زمن الحماية، إحصاء انتهى الى أن عدد أتباع هذه الزوايا بلغ 227, 400، وهو رقم فيه نظر ضمن منهج البحث العلمي ولا يمكن الأخذ به كمعطيات، ولا التعامل معه بشكل نهائي، نظراً لِما طبع فعل هذا الإحصاء من صعاب لكون الفترة هي فترة حماية أجنبية استعمارية، طبعها ما طبعها من إخفاء الحقيقة والمبالغة في المعلومة فضلاً عما اقتضته مصالح شيوخ الزوايا.

 

وعن زوايا تازة واتباعها يسجل أن عملية الإحصاء هذه تحدثت عن ثلاثة عشرة منطقة بالمغرب هي وجدة وفاس ومكناس والقنيطرة (بور ليوطي) والرباط والدار البيضاء والجديدة وأسفي والأطلس المتوسط ومراكش وتافيلالت والتخوم المغربية الجزائرية ثم تازة.

وإذا كان هذا الإحصاء قد وضع جهة مراكش في المقدمة من حيث عدد السكان المسلمين ب 1.649.277 وب 58.623 من اتباع الزوايا بها، فقد جاءت منطقة تازة في المرتبة السادسة بعد كل من الدار البيضاء وفاس وآسفي والجديدة، وقبل كل من الرباط ومكناس والقنيطرة والأطلس المتوسط ووجدة وتافيلالت، فضلا عما كان يعرف بالتخوم المغربية الجزائرية، وذلك ب 325.009 من عدد السكان المسلمين بها، منهم 12.270 من اتباع الزوايا بالمدينة بنسبة 3,7%، منهم 11 من الصدوقيين (الزاوية الصدوقية)، 199 من الكرزازيين (الزاوية الكرزازية)، 17 من الشيخيين،(الزاوية الشيخية)، 236 من القادريين (الزاوية القادرية)، 368 من الكتانيين (الزاوية الكتانية)، 787 من الناصريين (الزاوية الناصرية)، 1830 من العيساويين (الزاوية العيساوية)، 2749 من التيجانيين (الزاوية التيجانية)، ثم2857 من الدرقاويين (الزاوية الدرقاوية)، و3205 من الوزانيين (الزاوية الوزانية).

 

وحول تصوف مغرب ثلاثينات القرن الماضي وزواياه ومنه تصوف تازة، يمكن التمييز بين ما هناك من سلطة وجود وفعل وأتباع بعدد متباين بين شرق البلاد وغربها، وبين الصحراء والأطلس المتوسط ومجال التخوم المغربية الجزائرية. نفس الشيء هو ما يسجل من تباين بين نسب اتباع هذه الزوايا بتازة وجوارها، علما أن المدينة وممرها عموما كانت منطقة عبور تاريخية.

هكذا يتبين ما هناك من تزايد نسبة أتباع زوايا من الشرق إلى الغرب، ومن ضعف نسبة أتباع ارتبطب مناطق خاضعة لسلطة المخزن قبل فترة الحماية، ومن انتقال لثقل أتباع من البوادي الى المدن، فضلا عما يسجل حول تصوف تازة من قوة لكل من الزاوية الوزانية في المقدمة والزاوية الدرقاوية والزاوية التيجانية والزاوية العيساوية، ولعل هذه الزوايا الأربعة مجتمعة كانت هي الأدرع الروحية الأهم والأقوى من حيث تأثيرها وتجليات تقاليدها وتأثيثها لمشهد المدينة.

 

وفضلاً عما حصل من أوراق تعريفية تراثية تنويرية بقيمة مضافة هامة حول التراث العيساوي والدرقاوي المحلي، الى حين ما ينبغي من اطلالات أخرى إبرازا لتراث المدينة اللامادي، ارتأينا ورقة بمختصر مفيد حول تصوف المدينة الشعبي من خلال الزاوية التيجانية وايقاعها بتازة، على أساس وقائع تاريخية وتفاعلات ورجالات تصوف ذات صلة عن مطلع القرن الماضي، الى حين ما ينبغي من نبش علمي وتوثيق ونشر، وما هو أنشطة وذهنية وأثاث زمن الحماية وبعد استقلال البلاد.

 

ومعروف أن التيجانية ترتبط بشخص أحمد التيجاني، شيخ الزاوية ودفين فاس (1150ه- 1230ه)، الذي ولد في منطقة “عين ماضي” بالجزائر وقرأ بها على يد شيوخها قبل أن يتوجه صوب فاس في سن 20 سنة، كما حال عدد معبر من علماء غرب الجزائر.

وبفاس أخذ عن الشيخ الطيب الوزاني شيخ الطريقة “الطيبية” وعن الشيخ محمد بن عبد الله التوزاني الشهير بالريف مبادئ الطريقة “الناصرية”، وعن الشيخ “أحمد الطواش التازي” الذي توفي عام 1204ه، وكان الشيخ أحمد التيجاني قد زار تازة عدة مرات، وبعد أداءه فريضة الحج توزعت حياته بين تلمسان وفاس وبلاد “توات” فيما بعد، لكن ملاحقة الأتراك له والضغط عليه هناك جعله يختار فاس وجهة وينتقل إليها رفقة أهله سنة 1211ه، وكان السلطان “مولاي سليمان” قد رحب به وجعله في مجلسه وأعطاه داراً وراتباً وظل بالمدينة حتى وفاته بها رحمه الله.

 

في رحلة لابنه “محمد التيجاني” بين فاس والجزائر عبر تازة من خلال نصوص تاريخية مؤثثة، ورد أن السفر كان في محاولتين بين دجنبر1 912 ويناير 1913، وأن هذا السفر كان عبارة عن قافلة بمئات الدواب المحملة بالأمتعة، مع زنوج  سود  كانوا يدبرون العملية فضلا عن هودج  كانت به زوجة الشريف التيجاني هذا. وأن الرحلة الثانية كانت من فاس الى المغرب الشرقي عبر شمال تازة وكانت تحت حماية ومرافقة عشرة فرسان وعدد من المشاة مع مرشد/ مشاوري من أهل تازة.

 

هذه الرحلة جاءت في نصوص تاريخية بوصف دقيق كمسالك واتصالات، مع ما سجل من تفاعل للشريف التيجاني هذا مع أهالي مناطق العبور من خلال رسائل وفق ما ورد، ولعل المسلك الذي اعتمدته الرحلة كان مجال عبور قوافل تجارة بين فاس وشرق البلاد.

ومن جملة ما ذكرته نصوص بحثية أن التجاني هذا بعيدا عن تازة وقبل بلوغ جوارها، أرسل رقاصاً إليها تحديداً لدى المقدم التيجاني بالمدينة، خوفا من أي طارئ وأخذ اًمنه للحذر والحيطة إثر ما كان يروج من حديث لصوصية بممر المنطقة من قِبل واحدة من قبائلها، وأن الشريف التيجاني أثناء عبوره ووجوده بتراب قبيلة “البرانس”، شمال المدينة، غير بعيد عن وادي “لحضر” الشهير بهذه الأعالي، أرسل “محمد الوزاني” أحد مرافقيه للبحث عن قائد قبيلة “البرانس”، القائد ادريس، آنذاك، وقد حضر هذا الأخير رفقة عدد من فرسانه وطلب من الشريف التيجاني النزول في كًعدة كانت تعرف ب “الروانب”، وهو ما يعني أن الرحلة لم تشمل تازة مقتصرة في طريقها على مجال قبيلة “البرانس”، شمالا، لأسباب ما.

 

والى جانب ما كانت عليه الرحلة من تخوف في ظرفية أمنية صعبة كانت عليها البلاد إثر فرض الحماية عليها من قبل الفرنسيين 1912، فضلاً عن كون ما هو أمني لم يكن مستتبا في ممر تازة عام 1913، والذي سيتم احتلاله في ربيع 1914، هكذا تقول النصوص أن التيجاني وجه رسالة لرئيس المخابرات الفرنسية ب “جرسيف” من أجل حمايته لبلوغ “قصبة امسون”، وهكذا قطع الشريف مجال قبيلة “البرانس” منطلقا مما كان يعرف محليا بكًعدة النبال (بلاد النبابلة)، ثم “سوق الخميس” و”بوهليل” وجامع “الخمسين” وهكذا حصل استقباله من طرف فرقة “الطايفة” وفرقة “وربة” بهذه القبيلة. وكان “محمد القباقبي”، مقدم الزاوية “التيجانية” بمدينة تازة قد جاء الى قبيلة البرانس، وقدم نفسه للشريف التيجاني في سوق الخميس.

 

هكذا وصل الشريف “محمد التيجاني” ابن أحمد التيجاني شيخ الزاوية التيجانية التي كانت بفرع لها بتازة، الى “قصبة مسون” عبر شمال مكناسة رفقة المقدم “محمدالقباقبي” ومعه حوالي مائة فرد من قبيلة “التسول” في مقدمتهم خليفة يدعى “محمد بن حمو” ومقدم يدعى “علي بن قدور” وحوالي أربعمائة فارس من قبيلة البرانس. وقد ورد أنه في منتصف ليلة وصوله الى قصبة مسون  شرق تازة، تلقى زيارة من حوالي عشرين فارسا عن قبيلة غياتة منهم القايد “محمدالوجاني”، ثم شيخ القبيلة ومقدم يدعى “عبد الله”.

ويسجل من خلال معطيات نصوص بحثية أنه إثر رفض البرانس مواصلة الطريق رفقة الشريف حتى بلاد ملوية، أرسل هذا الأخير الى قائد السلاح الفرنسي بجرسيف للحصول على الحماية.

وفي 25 يناير 1913تم الحديث عن وصول الشريف هذا الى ملوية في اتجاه شرق البلاد عبر بلاد البرانس وهوارة، من خلال برقية فرنسية من فاس في 29 يناير 1913.

 

يبقى أن تيمة التصوف الشعبي بتازة كتراث وزوايا وذاكرة رمزية تاريخية، كانت المدينة على موعد معها أواخر شهر رمضان قبل خمس سنوات من خلال ندوة ضمن تقليد ليلي تراثي رمضاني عُرف آنذاك بموائد رمضان الفكرية، ندوة ارتأت من خلالها الجهة المنظمة الانفتاح على ما من شأنه خدمة الرمزي التراثي للمدينة، وعياً منها بقيمة ما هو موارد لا مادية في إغناء ما من شأنه أن يكون رافعا لتنمية محلية.

ندوة رمضانية بقدر ما جمعت بين منسقية النسيج الجمعوي التازي والنيابة الإقليمية للمندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير والنادي التازي للصحافة، بقدر ما أطرها باحثون بقدر معبر من عناية واهتمام بتاريخ وتراث تازة، ضمن بادرة رمزية تراثية غير مسبوقة تمحورت آنذاك حول “تازة.. الزوايا بالمدينة وتفاعل المكان”.

 

عضو مركز ابن بري التازي للدراسات والأبحاث وحماية التراث

التعليقات مغلقة.