عنتر بن شداد العاشق القوي

العاشق القوي

أَلا يا عَبلَ قَد زادَ التَصابي … وَلَجَّ اليَومَ قَومُكِ في عَذابي

وَظَلَّ هَواكِ يَنمو كُلَّ يَومٍ … كَما يَنمو مَشيبي في شَبابي

عَتَبتُ صُروفَ دَهري فيكِ حَتّى … فَني وَأَبيكِ عُمري في العِتابِ

وَلاقَيتُ العِدا وَحَفِظتُ قَوماً … أَضاعوني وَلَم يَرعَوا جَنابي

ارتفع موضع عنترة وزاد في عبلة طمعه، وكانت هي سبب فصاحته لأنه كلما ذكرها انطلق لسانه بالشعر الرقيق، حتى وقعت هيبته في قلوب الأنام، وسمعت بذلك الشعر أم عبلة وأبوها، غير أنهما لم يكترثا به، فلما كثر الحديث عند أم عبلة دعت عنترة إليها، وقالت له: “ياعنترة ، سمعت أنك تحب ابنتي وتذكرها في شعرك”

وكانت عبلة بجانبها وقد أرخت ذوائبها، وسمعت أمها تقول لعنترة ذلك المقال، فتبسمت عن ثغر نادر المثال فازداد بعنترة الهيام، وقال: “ياسيدتي. هل رأيت من يبغض مولاته..! أي والله أحبها وحبها لا أنكره وصورتها لا تبرح ناظري ، وقالت له: “سأطلب لك من زوجي أن يزوجك خمسية جارية ابنتي عبلة فليس لها شبيه في الجمال ولا حاز مثلها رجل من الرجال، فتبسم عنترة في حسرة وقال والله ما أتزوج غير من يهواه الفؤاد، فهمست عبلة في أذن عنترة “بلغك الله أمانيك” وشاعت أبيات عنترة في جميع القبائل فازداد حقد اخي عبلة وأثار عليه شاس بن الملك زهير والربيع بن زياد، فواعداه على قتله.

وكان لشداد بنت من غير سمية يقال لها “مروة” وكانت متزوجة في بني غطفان برجل يقال له الحجاج بن مالك، فاتفق أن الحجاج زوج أخته فلما جاء وقت العرس وأعلنت في الحي الدعوة جاءت مرة لكي تدعو شداد أباها وعمها وأخاها وأقاربها، واجتمع الرجال والنساء وفي السير بعد أن استأذنوا من الملك زهير هذا وقد سبقت النساء الفرسان بنصف يوم وخرجت النساء بعدهم في الهوادج. وقد أرخين الذوائب وأبرزن وجوها مثل البدور، والجواري أمام الهوادج والعبيد متقلدين السيوف وعنترة معهم وهو من دون العبيد راكب على جواد يمشي إلى جوار عبلة يحدثها.

يا عَبلَ إِنَّ هَواكِ قَد جازَ المَدى … وَأَنا المُعَنّى فيكِ مِن دونِ الوَرى

يا عَبلَ حُبُّكِ في عِظامي مَع دَمي … لَمّا جَرَت روحي بِجِسمي قَد جَرى

وَلَقَد عَلِقتُ بِذَيلِ مَن فَخَرَت بِهِ … عَبسٌ وَسَيفُ أَبيهِ أَفنى حِميَرا

يا شَأسُ جِرني مِن غَرامٍ قاتِلٍ … أَبَداً أَزيدُ بِهِ غَراماً مُسعَرا

مالت الشمس إلى الاصفرار فحملوا الرجال، ونزلوا على غدير هناك فتولى عنترة حراسة النساء إلى اليوم التالي.

فلما أرادت العبيد أن ترفع الهوادج، واذا بالغبار قد ملأ القفار ثم انكشف الغبرة عن مائة فارس كأنهم الليوث في أوائلهم فارس ينادي (الثأر الثأر.. البدار.. البدار)

وكان شاس بن الملك زهير والربيع بن زياد بعد أن تآمروا على اغتيال عنترة وضعا عليه العيون فلما علما بسيره مع بني عبس إلى بني غطفان..

اتفقا على أن يبادروه بمن لديهم من الفرسان.. وكمنوا له في وادي الغزال، وحاولوا أن يهاجموه في الظلام واذا بهم يفاجأون بمائة فارس قد أغاروا عليهم ونادوا بهم أثبتوا يا فتيان قبل أن تطير رؤوسكم، فلما سمع بسام عبد الربيع ذلك المقال نبه أصحابه للقتال وقال للفرسان من أنتم وما شأنكم؟ فقال المقدم لبسام: (لقد أتينا لسفك دمائكم ونهب أموالكم لا سيما اذا كان فيكم عبد السوء عنترة بن شداد.

وكان هؤلاء الجماعة من قوم يقال لهم بنو المصطلق والمقدم عليهم غالب بن وثاب وكان عنتر قد قتل له أخاً.

فسار في مائة فارس يطلب بني عبس يأخذ الثأر، وهو يقول: إن كان عبد بني عبس قد قتل أخي، فأنا أقتل ساداتهم وأعود برأس ذلك الأسود ولم يزل سائراً حتى أشرف على وادي الغزال وكمن بمن معه من الرجال ثم أنفذ أحد العبيد ليأتيه بالخبر، فمضى وعاد وأخبره بأن بني عبس قادمون في الأثر، وبعد قليل تصل النساء وبينهم عنترة.

فلما سمع بسام كلام المقدم قال: أسعدنا الحظ لأن كلاً منا ما أتى إلا لقتل عنترة ونحن أيضاً أرسلنا مواليا من بني عبس في طلبه حتى نسقيه كأس عطبه.. لأنه أصاب بعضنا بالظلم والعدوان.

فقال مقدم القوم: لا نريد منكم مساعدة، ولكن عاهدونا على أنكم لا تكونون علينا، فعاهدهم بسام، وقد رأى ذلك صواباً في قضاء حاجة مولاه فطاوع غالباً وجاراه وقال لأصحابه: ستكونون على أي حال منصورين. لأننا رأينا عنترة وقد أضعف هؤلاء القوم وأصبحوا في مثل عددنا ما نمكنهم من أخذ الحريم وان رأيناهم قتلوه قاتلناهم حتى تدركنا الرجال.. نخلص نحن النساء ونبلغ من قتل عنترة ما نشاء. فقال، افعل ما تريد.

دَعني أَجِدُّ إِلى العَلياءِ في الطَلبِ … وَأَبلُغُ الغايَةَ القُصوى مِنَ الرُتَبِ

لَعَلَّ عَبلَةَ تُضحي وَهيَ راضِيَةٌ … عَلى سَوادي وَتَمحو صورَةَ الغَضَبِ

إِذا رَأَت سائِرَ الساداتِ سائِرَةً … تَزورُ شِعري بِرُكنِ البَيتِ في رَجَبِ

يا عَبلَ قومي اِنظُري فِعلي وَلا تَسَلَي … عَنّي الحَسودَ الَّذي يُنبيكِ بِالكَذِبِ

إِذ أَقبَلَت حَدَقُ الفُرسانِ تَرمُقُني … وَكُلُّ مِقدامِ حَربٍ مالَ لِلهَرَبِ

فَما تَرَكتُ لَهُم وَجهاً لِمُنهَزِمٍ … وَلا طَريقاً يُنَجّيهِم مِنَ العَطَبِ

فَبادِري وَاِنظُري طَعناً إِذا نَظَرَت … عَينُ الوَليدِ إِلَيهِ شابَ وَهوَ صَبي

خُلِقتُ لِلحَربِ أُحميها إِذا بَرَدَت … وَأَصطَلي نارَها في شِدَّةِ اللَهَبِ

بِصارِمٍ حَيثُما جَرَّدتُهُ سَجَدَت … لَهُ جَبابِرَةُ الأَعجامِ وَالعَرَبِ

وَقَد طَلَبتُ مِنَ العَلياءِ مَنزِلَةً … بِصارِمي لا بِأُمّي لا وَلا بِأَبي

فَمَن أَجابَ نَجا مِمّا يُحاذِرُهُ … وَمَن أَبى ذاقَ طَعمَ الحَربِ وَالحَرَبِ

 واشهروا مرهفات نضالهم، وقصدوا عنترة، وكان يحرس وقتئذ ركب النساء والأولاد فلما اقتربوا منه صرخت النساء وبكى الأطفال ونظر عنترة إلى عبلة فرأى دموعها تنحدر على خديها وسمية وأم عبلة تصيحان بالويل والحرب.. وقد خشينا على العرض فتقدم عنترة إلى أم عبلة وقال لها: أتزوجينني عبلة حتى أرد هذه الخيل من أول حملة، فقالت ويلك يا عنترة.. أفي مثل هذا الوقت يكون المزاح والأجساد قد كرهت الأرواح. فقال عنترة “لا” وحق خالق الصباح. إن وعدتني بذلك رددت هذه الخيل كلها على أعقابها وأعطيتك كل عددها فقالت “دونك الخيل ولك ما تريد”. غير أنها لم تكن تضمر له الوفاء.

أما عنترة فلما سمع ذلك سر وركب الجواد وتهيأ وأمر العبيد بترك الجمال.. وحل الرحال وقال لأخيه شيبوب احمي بنبالك ظهري وأنا أتلقى الخيل بصدري وما كاد يهجم عليه القوم حتى صاح بهم واذا بسيفه قد طوق النحور.. وخاض في الأحشاء، ولم يلبث أن أهلك منهم ثلاثين فارساً.

وكان جواد عنترة قد جهد ومل ووهن عزمه واضمحل. فنزل عنه وركب غيره من الخيل المغيرة، وعاد إلى المجال.

أما عبيد بني عبس فلما رأوا ما فعل عنترة بالقوم انقطعت ظهورهم، وقال لهم بسام: “ويلكم.. اشكر الله أن وقع لنا هؤلاء القوم.. وقاتلوا عنا في هذا اليوم، فقد فدونا بأنفسهم من هذا البلاء.

ونظر مقدم القوم غالب إلى ما أصاب أصحابه من العذاب وقال: يا للمصيبة لو علمت أن الأمر يفضي إلى هذه الحالة لسبقت إلى قتل هذا الشيطان قبل أن يفعل ما فعل ولكني أهملت أمره، ثم وثب إلى الميدان فصدم عنتر صدمة تهز الجبال وحمل عليه حتى طعنه بين ثدييه وانقض على باقي أصحابه فشردوا في الجبال فنظرت عبيد الربيع إلى فعاله فولوا الأدبار وعاد عنترة وسنانه تقطر من الدم فلقيته عبلة وهي تبتسم، وأمر العبيد فجمعت أسلاب القتلى وساقوا الخيول.

التعليقات مغلقة.