أول جريدة إلكترونية مغربية تتجدد على مدار الساعة

أنى يستجاب لهم؟! 

د/ موفق السباعيٍ

إن الدعاء هو: مخ العبادة، بل هو العبادة. وفي الحديث الصحيح عن النعمان بن بشير( الدُّعاءُ هو العِبادةُ ). 

 

وكل العبيد – حينما يصابون بضائقة، أو يقعون في مصيبة، أو يتعرضون لخطر داهم، لا حيلة لهم في دفعه – يتوجهون إلى الله تعالى؛ يدعونه بحرقة ولوعة، واستغاثة مخلصة وصادقه؛ ليكشف عنهم ذلك البلاء. 

 

والله تعالى يصور هذا المشهد البشري الخائف المتذلل المتواضع المستكين إلى الله أروع تصوير   ﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢) ﴾ يونس. 

الملايين دعوا الله في رمضان  

 

ومن أجل ذلك، فإن ملايين المسلمين – سواءً أكانوا سوريين أم سواهم – قد دعوا الله تعالى في رمضان، وفي العيد، وانهمرت الدموع من مآقيهم؛ فجرت أنهاراً وبحاراً، ولا يزالون يدعونه.. أن يحطم، ويفتت نظام طاغوت الشام، وأن يعجل بالفرج المبين على الجميع..  

 

ولكن لماذا لم تتم الاستجابة – كما يريدون – ؟! يسأل أحدهم:  

مع أن الله سبحانه قد وعد بالإجابة الفورية الآنية – والله صادق الوعد، ولا يخلف وعده – في قوله: ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ﴾ غافر 60.  

فهو سبحانه وتعالى شأنه لم يقل: سوف أستجبْ لكم، أو سأستجيب لكم في المستقبل..  

وإنما قال: بالتحقيق، والتأكيد، والحسم، والجزم القطعي ( أستجبْ لكم ) استجابة فورية، آنية، غير مؤجله. 

ويقول الطبري في تفسيره ( يقول تعالى ذكره: اعبدوني وأخلصوا لي العبادة دون من تعبدون من دوني من الأوثان والأصنام وغير ذلك ﴿ أَسْتَجِبْ لَكُمْ ﴾ يقول: أُجِبْ دعاءكم فأعفو عنكم وأرحمكم ). 

والطرفة الرائعة، البهية، المُبهرة في هذه الآية.. أن كلمة ( أستجبْ ) فعل مضارع مجزوم، لأنه جواب الطلب.. بمعنى أنه حالما تطلبون.. تحصل الإجابة الفورية الآنية دون أي تأخير.  

إذن! لماذا لم تتحقق الاستجابة لملايين العبيد المسلمين؟! 

الجواب في قوله تعالى: ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ﴾ الشورى 30. 

فحينما تكون الذنوب كثيرة، والعباد منغمسون فيها حتى مفرق رؤوسهم، ولا يتوبون، ولا يتذكرون إلا لحظات عابرة، فيرفعون أيديهم إلى السماء يدعون.. فأنى يُستجاب لهم؟!  

والحديث الصحيح عن أبي هريرة، يوضح ويفسر، ويبين سبب عدم الاستجابة، في أروع بيان، وأجزل عبارة فيقول: 

(أَيُّها النَّاسُ، إنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إلَّا طَيِّبًا، وإنَّ اللَّهَ أمَرَ المُؤْمِنِينَ بما أمَرَ به المُرْسَلِينَ، فقالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51]، وقالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أشْعَثَ أغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى السَّماءِ، يا رَبِّ، يا رَبِّ، ومَطْعَمُهُ حَرامٌ، ومَشْرَبُهُ حَرامٌ، ومَلْبَسُهُ حَرامٌ، وغُذِيَ بالحَرامِ، فأنَّى يُسْتَجابُ لذلكَ؟!). 

وقال النووي – رحمه الله -: (أي إنه يطيل السفر في وجوه الطاعات؛ كحجٍّ وزيارة مستحبَّة، وصلة رحم، وغير ذلك؛ اهـ.). 

إذاً، وبالرغم من أن هذا الرجل؛ يضرب في مناكب الأرض، ويسعى في جنباتها؛ يريد – ظاهرياً – طاعة الله، وعبادته، ولكنه كان يلوث عمله الصالح، بأكل الحرام، فلا يتنزه عن ذلك. ولذلك لم يستجب له. 

ولو ألقينا – في الوقت الحاضر – نظرة خاطفة على مظاهر حياة ذراري المسلمين.. لوجدنا الملايين منهم بل كلهم – إلا قليلاً جداً جداً منهم – لا يتورع، ولا يتنزه عن أكل الحرام، وظلم الناس. 

لا يوجد مظلوم، بل الكل ظالم 

  

(قال الإمام المقريزي (رحمه الله تعالى): جاءني أحد الصالحين، سنة ثلاث عشرة وثماني مائة، والناس إذ ذاك من الظلم في أخذِ الأموالِ منهم ومعاقبتِهم إذا لم يؤدوا أُجرة مساكنهم التي يسكنوها حتى ولو كانت ملكاً لهم بحال شديدة! 

(وأخذنا نتذاكر ذلك فقال لي: ما السبب في تأخر إجابة دعاء الناس في هذا الزمان، وهم قد ظُلموا غاية الظلم! بحيث أن امرأة شريفة عُوقبت لعجزها عن القيام بما أُلزمت به من أُجرة سكنها الذي هو ملكها، فتأخرت إجابة الدعاء مع قول الرسول: ((اتق دعوة المظلوم, فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)) وها نحن نراهم منذ سنين يدعون على من ظلمهم، ولا يستجاب لهم. 

(ثم قال الإمام المقريزي (رحمه الله تعالى): فأفضينا في ذلك حتى قال: سبب ذلك أن كل أحد صار موصوفا بأنه ظالم، لكثرة ما فشا من ظلم الراعي والرعية، وإنه لم يبق مظلوم في الحقيقة، لأنا نجد عند التأمل كل أحد من الناس في زماننا وإن قلّ، يظلم في المعني الذي هو فيه من قدر على ظلمه، ولا نجد أحداً يترك الظلم إلا لعجزه عنه، فإذا قدر عليه ظلم، فبان أنهم لا يتركون ظلم من دونهم، إلا عجزاً لا عِفَّة. 

قال الإمام المقريزي (رحمه الله تعالى): ولعمري لقد صدق رحمه الله، وقد قال المتنبي قديماً: 

والظلم من شيم النفوس، فإن تجد…    ذا عفة فلعله لا يظلمُ.)  

ولذلك نستطيع أن نقول بكل ثقة ويقين: إنه لا يوجد مظلوم واحد على وجه الأرض، فالكل يظلم الآخر بقدر ما يستطيع، وإن لم يظلم؛ فلعجز لديه، وضعف عنده؛ يمنعه من الظلم. 

ثم كيف تكون استجابة الدعاء، والرسول صلى الله عليه وسلم، يحذر أشد التحذير: بأن المسلمين، إذا تخلوا عن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر – وأكبر منكر يجري على وجه الأرض، والمسلمون ساكتون عنه، وهو اغتصاب الحكم من الله تعالى، وقيام العبيد، بحكم العبيد، حسب أهوائهم وشهواتهم – فلن يُستجابَ لهم. 

عن أبي هريرة رضي الله (لتأمُرنَّ بالمعروف ولَتنهوُنَّ عن المنكر أو لَيسلطنَّ الله عليكم شراركم فيدعو خيارُكم فلا يستجاب لهم.). 

 

الله عز وجل لا يستجيب حسب مزاج الداعين 

 

وثمة أمر هام! لا ينتبه له كثير من الناس.. وهو: إن الله تعالى لم يقل: أستجبْ لكم حسب مزاجكم، وحسب هواكم، وحسب رغبتكم! 

وإنما جعل الإجابة مفتوحة، حسب علم الله الواسع، وحسب تقديره لحاجات عبيده، وحسب معرفته المطلقة بما يصلح شؤون عبيده، وحسبما يراه من صدق وإخلاص من عبيده، في عبادتهم له، والتزامهم بأحكامه وحدوده.  

حتى إن أحد الصالحين يقول: إني لأفرح إذا دعوت الله تعالى ولم يتحقق لي ما أريد، لأن هذا هو مراد الله تعالى، بينما إذا تحقق ما أريد، فهو مرادي، وإن مراد الله عندي، أغلى، وأكرم، وأعلى شأناً من مرادي.  

فالذين لا يلتزمون بأوامر الله، ويتعدون حدوده، ولا يكفرون بالطاغوت، وبالعلمانية، ولا يؤمنون بأن الحاكمية لله وحده، ولا يؤمنون بأن القرآن، هو الدستور الوحيد والأوحد للعبيد، ولا ينبذون قوانين العبيد جميعها، ويدوسون عليها بأقدامهم.. فأنى يُستجاب لهم؟! ولو ظلوا يدعون الله ألف سنة. 

وقد يسأل أحدهم:  

ولكن قد يوجد بعض من المسلمين، يؤمنون بما ذُكر آنفاً، فلماذا لم يستجب الله لهم؟!  

الجواب في قوله تعالى: ﴿ واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ﴾ الأنفال 25.  

فالذين لا تتمعر وجوهم حين رؤية المنكر – والمنكر الأكبر هو: تحكيم شرع العبيد، بدلاً من شرع رب العالمين – فلا ينكرونه، ويغضون الطرف عنه، ويقبلون بعبادة حكامهم، وأسيادهم الذين يحلون لهم الحرام، ويُحرمون عليهم الحلال كما قال تعالى: ﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١) ﴾ التوبة. 

وقد فسر الرسول صلى الله عليه وسلم، عبادة الأحبار والرهبان، بطاعتهم فيما يخالف أمر الله. 

فهؤلاء! أنى يُستجاب لهم، ولو تعلقوا بأستار الكعبة ألف سنة؟!  

التعليقات مغلقة.