أول جريدة إلكترونية مغربية تتجدد على مدار الساعة

عقدين من الزمن عن نص بحثي مُؤسِّس حول زمن “البرانس” الوطني

عبد السلام انويكًة

كل مسار كيفما كان شأنه وحاله ومقامه وسقفه ومرتقاه، هو نتاج محاولات ومن ثمة بدايات، ومن لا محاولة ولا بداية له ضمن هذا وذاك من فكر وعلم وبحث وأدب وفن وابداع، لا شيء ولا أثر له.

 

 

هذا هو ما جرت به مقادير ما حصل من قصة مع هذه الوثيقة “كتاب تازة على عهد الحماية” باكورة بداية على مقام ما سبق ذكره، وهي الوثيقة التي تحتفي بربيعها العاشر بعدما كتب لها أن ترى النور كنص بات رهن إشارة القراء.

والحقيقة أن فكرة هذه الوثيقة/ المؤلف الموسوم ب:”تازة على عهد الحماية..مقاومة القبائل للاستعمار..”، تبلورت في رحم شعبة التاريخ بكلية الآداب سايس فاس، بتوجيه وفضل من الأستاذ الدكتور “سمير بوزويتة”، عميد كلية الآداب والعلوم الانسانية سايس فاس.

ولعله بحكم خبرته ودرجة اطلاعه وتخصصه، من الباحثين المغاربة العارفين بسراديب زمن المغرب المعاصر والراهن الوطني فضلا عن مكامنه وكائن بياضاته، وبخاصة من هذا الزمن ما هو جهوي حيث تازة خلال فترة الحماية ومقاومة قبائلها للاستعمار.

وإذا كانت فكرة هذه الوثيقة/المحاولة، قد تبلورت ضمن هذا الوعاء المحترم، فإن فكرة تقاسمها بعدما ظلت حبيسة ظِلِّ لسنوات، بقدر ما لم تكن شخصية أبدا بقدر ما كانت نتاج حفز نبيل من صديقان ومثقفان محترمان متميزان، لِما كانا لهما من خبرة واطلاع وسبق في مجال الكتابة والنشر، ويتعلق الأمر أولا بالروائي والأديب الأستاذ الفاضل ابن تازة البار “عبد الاله بسكًمار”، إعلامي من طراز رفيع وعضو اتحاد كتاب المغرب، فضلا عن اسهامات محترمة له في تاريخ تازة وزمنها الحضاري الرمزي.

وأما الثاني وقد انتقل الى جوار ربه رحمه الله تعالى قبل عدة سنوات، ابن تازة الأستاذ الفاضل والباحث المتمكن والمثقف العميق الدكتور “محمد الزرهوني”، الذي بقدر ما كان مجنونا بالبحث والاطلاع والكتابة والنشر، بقدر ما كان محفزا على خوض تجارب الكتابة والمبادرة والنشر والتقاسم.

وعليه، رحمه الله تعالى، وبعد لقاء معه بتازة ذات ربيع رفقة الأستاذ “بسكًمار”، لم يهدأ له بال بعدما اطلع على نسخة المؤلف في حلته البحثية الأولى على جهاز الحاسوب.

وبأخلاق الباحث المحفز الغيور المحب للثقافة والفكر والنشر والتأليف، بما يخدم ويسهم في الإنماء كيفما كانت قطرة هذا الاسهام.

ألح رحمه وأسر لطفا ومحبة وصداقة منه، على أخذ هذه النسخة للاشتغال عليها لبعض الوقت بمدينة صفرو حيث إقامته.

وهو ما حصل فعلا حيث ألبس رحمه الله هذه المحاولة البحثية التاريخية المتواضعة المنفتحة على أحواز تازة، حلة جديدة اعطتها نفس وضوابط نص وكتاب.

قبل أن يسلمها لي ويغمرني بشرف تقديم رفيع المستوى، فضلا عن تهنئته لي على باكورة عملي الأول حول تازة قائلا: “إعمل ولا تلتفت”.

هكذا هي قصة أول باكورة، كتاب”تازة على عهد الحماية” الذي رأى النور صوب القراء والمهتمين عبر مدينة طنجة العالية وعبر منشورات “ومضة” البهية” قبل عشر سنوات بالتمام والكمال.

وعن هذه الوثيقة/ الكتاب، وفي ذكرى صدوره قبل عقدين من الزمن، والشيء بالشيء يذكر كما يقال، من المفيد الإشارة الى أن حيزا هاما من اهتمامات الدارسين والمؤرخين المغاربة، ذلك الذي شغل البحث حول تاريخ البادية المغربية عموماً ولا يزال، علماً أن ما حصل من أعمال وتراكمات في هذا الاطار، بقدر ما جاء متعدداً في زوايا نظرته ومقاربته بقدر ما جعل الخزانة التاريخية المغربية بنصوص وتجارب لا يستهان بها.

وهكذا مقابل أبحاث ودراسات جمعت بين وصف وتصنيف لتاريخ عدد من بوادي بالمغرب، توجهت أخرى على محدوديتها لقضايا ومحطات بأزمنة محورية، خاصة ما تعلق منها بالفترة المعاصرة من زمن المغرب، في أفق فهم أوسع لأحداثها ضمن تطور تاريخ البلاد العام.

ولا شك أن الباحث والمهتم بتاريخ البادية المغربية، يجد نفسه أمام غموض لا يزال يلف جوانب كثيرة من مكونات قبائلها واسهاماتها وحضورها في تاريخ البلاد.

وكان الأستاذ “علال الخديمي” قد أشار في احدى أعماله العلمية، أن تاريخ القبائل المغربية، أو على الأقل معظمها، لا يزال موضوع تكهنات وأحكام مسبقة ونظريات متسرعة، علما أن تاريخ المغرب في حدود معبرة هو تاريخ بادية بالأساس لِما لعبته هذه البادية من أدوار هامة فيه.

ضمن هذا السياق وحول ذاكرة بادية مقدمة جبال الريف بشمال المغرب وتحديداً تازة، وكذا درجة وعلامات مساهمة هذه المنطقة الجبل في تاريخ البلاد الوطني ومواجهة الاحتلال الاستعماري على عهد الحماية، يدخل كتاب ”تازة على عهد الحماية قبيلة البرانس في مواجهة الاستعمار الفرنسي”، الصادر كما سبقت الإشارة لذلك عن منشورات “ومضة” بطنجة في حجم من قطع متوسط، بصورة مدمجة في واجهته عن الأرشيف الفرنسي تخص ثكنة عسكرية فرنسية لا تزال أطلالها قائمة شمال تازة، حيث مركز تايناست غير بعيد عن حدود ما عُرف زمن الحماية بالمنطقة الخليفية أي منطقة الاحتلال الاسباني.

والكتاب يدخل ضمن مجال البحث التاريخي حول البادية المغربية ومساهمتها في مقاومة الاحتلال الأجنبي، خاصة بوادي المناطق الجبلية الوعرة والنائية.

كتاب بتقديم عميق للأستاذ الباحث للدكتور “محمد الزرهوني”، رحمه الله، ضمنه جملة اشارات مُحكمة استحضرت سياق مثنه وما تأسس عليه من ببيبليوغرافيا ووثائق بقيمة تاريخية عن الأرشيف الاستعماري بالمغرب. 

مؤلف “تازة على عهد الحماية” هذا، جاء بثلاث محاور ضمن زمن منهجي تاريخي، بسطت لمحطات من تاريخ منطقة تازة وخاصة قبيلة البرانس، بإبرازها لعدة تطورات ووقائع طبعت المنطقة منذ عقد الحماية حتى الكفاح الوطني من أجل استقلال المغرب.

وقد انصب الكتاب كبادرة غير مسبوقة باعتباره أول عمل تاريخي حول القبيلة، على دراسة قبيلة البرانس من حيث خصائص موطنها وسمات مجتمعها ومكونات أنشطتها، وكذا تفاعلاتها مع محيطها منذ القدم.

مع تركيزه على فترة حرجة من تاريخها عندما انخرطت في مواجهة التوغل الاستعماري الفرنسي بالمنطقة بين سنتي 1912- 1956م، وما واكب ذلك من مد وجزر في علاقة مع ممر تازة، ومن شد وجذب بينها وبين فلول القوات العسكرية الاستعمارية منذ احتلال تازة، فضلاً عن تضحيات جسيمة فردية وجماعية قدمتها قبيلة البرانس في سبيل استقلال البلاد.

وبقدر ما شكل كتاب “تازة على عهد الحماية قبيلة البرانس في مواجهة الاستعمار الفرنسي”، قيمة مضافة هامة لفائدة تاريخ المنطقة وباديتها وتاريخ القبيلة، بقدر ما يعد اضافة للخزانة التاريخية وإسهاماً في حقل التاريخ المحلي والجهوي، وهو ما أورد عنه الدكتور “محمد الزرهوني” في تقديمه له قائلاً: “بقدر ما لهذا التخصص من أهمية بالغة في سبيل إماطة اللثام عن قضايا وإشكاليات وتجارب بشرية مُموقعة في المجال ومُمتدة في الزمان، تخص مدنا وقرى وتجمعات بشرية ظلت مجهولة أو مغمورة لضعف الاهتمام بها أو لتهميشهابقدر ما ينطوي على تحديات جمة على مستوى التنقيب والتأليف لِما يعتري ذلك من صعاب، تتعلق بندرة الوثائق أو قلة فرص الحصول عليها لأسباب متعددة.

منها على الخصوص ضعف حركة التدوين وسيادة الثقافة الشفاهية، والميل إلى التكتم عليها أو إخفائها.  لذلك فإن الباحث الراغب في اقتحام هذا الفرع من التاريخ، يجد نفسه أحيانا أمام مغامرة تتطلب منه الصبر والتؤدة والمكابدة وسعة الصدر.

لعله يجمع شذرات متناثرة من المعلومات والموارد تسعفه لتحقيق مبتغاه، دون أن تشفي فضوله الفكري بالمستوى المطلوب وتروي غليله العلمي بالكيفية المتوخاة.

والواقع، أن مختلف هذه النقائص لم تثن عزائم ثلة من الفاعلين والباحثين عن الاضطلاع بهذه المهمة العلمية المجدية، فعمدوا إلى اقتحام عرين التاريخ المحلي، لدوافع ذاتية أو موضوعية كل حسب موقعه ووضعه ومبتغاه، واستطاعوا بفضل انخراطهم البيِّن أن يدلوا بدولهم في هذا الشأن، متجشمين عناء الصعاب ومقارعين ثقل المشاق”.

ويعد مؤلف “تازة على عهد الحماية قبيلة البرانس في مواجهة الاستعمار الفرنسي” في محوره المخصص للشق الفزيائي، بمثابة جولة في جغرافيا قبيلة البرانس التي تتميز بمجال طبيعي معقد ومتنوع، فرضته وعورة تضاريس جبلية وقساوة مناخ واتساع رقعة وصعوبة مواصلات.

فضلاً عن واقع عزلة نسبية في علاقة بمحيطه وبخاصة من جهة الشمال حيث مقدمة جبال الريف، المجال الذي جابه المؤلف لالتقاط شظايا رواية بهذا المكان أو ذاك من خلال هذا المقاوم أو ذاك من الاحياء.

ولا شك أن المؤلف يعكس ما بذل من جهد حول هذه الفترة من تاريخ مغرب الحماية وبهذه الرقعة الجبلية.

نظرا لضعف المادة المصدرية التي لا تتجاوز في الغالب الأعم ما خلفته الادارة الاستعمارية من وثائق ومستندات، فضلا عن بعض ما ورد في حواشي الدراسات الأكاديمية.

ولعله ما دفع للاعتماد على الرواية الشفهية في توثيقه لتاريخ مقاومة قبيلة البرانس للاستعمار الفرنسي، من أجل سد الفراغات التي تقفز عليها المصادر والمراجع المتوفرة، وهو دليل على أهمية طرح السؤال حول مدى صدقية ومصداقية الخلاصات والاستنتاجات التي يتم الاهتداء إليها بالاعتماد فقط على المادة المصدرية الأجنبية.

لقد جاء مؤلف “تازة على عهد الحماية..” غنياً بمادة توثيقية مستقاة من رواة عايشوا الأحداث التي تناولها، قصد انتقاء الأهم وفرز الغث من السمين وغربلة المنحاز من الرواية عن الموضوعي، ولانتقاء وحصر ما يمكن أن تقدم رؤية متوازنة لِما جرى من أحداث وتطورات.

ففي مائة وسبعين صفحة من القطع المتوسط، بسط الكتاب لجانب من تاريخ قبيلة البرانس المعاصر، عبر ثلاثة فصول تحدث الأول منها عن القبيلة في امتداداها المجالي وأصول تسميتها وتركيبتها ونمط عيشها وتاريخها.

منذ فترة الأدارسة حتى ظهور طلائع القوات الاستعمارية الفرنسية الغازية الأولى على مشارف حدود القبيلة.

أما الفصل الثاني فقد تناول مقاومة قبيلة البرانس للاحتلال الفرنسي تدريجياً، مع التعريف برموزها الذين حملوا مشعل المقاومة ما بين 1914 – 1956.

ويأتي الفصل الثالث من الكتاب ليبرز رد فعل قبيلة البرانس على حدث نفي السلطان محمد بن يوسف من قبل سلطات الحماية، من خلال اعلانها النفير في صفوف أبنائها لتعبئتهم في معترك المقاومة المسلحة التي لم تضع أوزارها إلا بإعلان استقلال المغرب. 

يبقى كتاب “تازة على عهد الحماية..قبيلة البرانس في مواجهة الاستعمار الفرنسي”، بقيمة مضافة للمكتبة التاريخية في شقها المتعلق بتاريخ البادية المغربية، لِما بذل فيه من جهد وما تميز به من شجاعة أدبية مؤسسة مبادرة، من أجل رصد معرفة تاريخية وطنية وتوثيقها ونشرها وإبرازها للأجيال الجديدة من جهة، ومن أجل إبراز ما أسهم به السلف من تضحيات، وما كانوا عليه من وطنية من جهة ثانية.

ولعل مثل هذه النصوص حول تاريخ البادية المغربية، هي مكونات أساسية لرأسمال رمزي يجسد ثراء البلاد اللامادي وتنوعه منذ قرون من الزمن.

التعليقات مغلقة.