الهيئات المدنية الكبرى بالجهة، غياب أم تغييب؟

الحبيب عكي

 الهيئات المدنية الكبرى بالجهة، غياب أم تغييب؟
الحبيب عكي

مؤخرا، تأسست هيئة مدنية كبرى أخرى بجهة درعة تافيلالت، يوم 17 يونيو 2023، سمت نفسها “أكاديمية التفكير الاستراتيجي بالجهة”، نتمنى لها التوفيق والسداد لما فيه مصلحة الجهة والساكنة، وهي ربما سابع هيئة مدنية كبرى تتأسس بالجهة بعد “الائتلاف المدني لجهة درعة تافيلالت”، و”المجلس الجهوي للمجتمع المدني بالجهة”، و”القطب الجهوي للعمل المدني درعة تافيلالت” و”مؤسسة درعة تافيلالت للخبراء والباحثين” و”تنسيقية المجتمع المدني درعة تافيلالت” و”المرصد الحقوقي للعمل المدني بالجهة” وغيرها، وكلها هيئات مدنية جهوية كبرى نذرت نفسها للعمل المدني الشمولي مع مجلس الجهة والاسهام الممكن واللازم في الأجرأة الدستورية للجهوية المتقدمة والعمل التشاركي مع مختلف الهيئات والقطاعات..؟.  

لكن، ها نحن وبعد حوالي عقد من الزمن من تأسيسها، تكاد كل هذه الهيئات المدنية الكبرى، قديمها وجديدها، تغيب على أرض الواقع وساحة الترافع التنموي والنضال الحقوقي ومشاكل الجهة ومعضلاتها في تنامي واستفحال، وكأن طموحها قد انكسر وحماسها قد خبا، وصداها قد فتر إن لم يكن تنظيمها قد تجمد، وانعدم شركاؤها وتعثرت وغابت مبادراتها..، ولم يبق منها إلا أحلام الخلق والسبق وأرضياتها التأسيسية الرائعة على الأوراق، ومع الأسف، لم تر منها الجهة المسكينة، جهة جبر الضرر الذي لا زال يستشري ولم يجبر، ولا ساكنتها اليتيمة المهاجرة والمهجرة، ولا حتى المجتمع المدني وأنسجته الجمعوية الممتدة والعريضة، لم تر منها شيئا حتى ما قد يكاد يساوي تكاليف تأسيس بعضها في الفنادق الفخمة، أو نفقات إيواء وتغذية ما حشدته لذلك من الطاقات من أبناء الجهة عبر مختلف المدن وأصدقائها عبر مختلف دول المعمور؟

هناك خلل إذن، بل اختلالات، لكن تنمية الجهة الفتية والمهمشة، وإرساء الاختيار الوطني للجهوية المتقدمة فيها، وانتظارات الساكنة (حوالي  1635008 حسب إحصاء 2014) وجمعيات المجتمع المدني (أزيد من 9371 جمعية حسب مصدر رسمي)، حق مشروع ويساءل اليوم كالعادة بأسئلته الحارقة كل هذه الهيئات الجهوية الجديدة بالإضافة إلى ما سبقها من الهيئات الجهوية القديمة والهيئات الوطنية التي لها العديد من الفروع في مختلف أقاليم الجهة الخمس، من تسبب ويتسبب في هذه الاختلالات؟، لعلها تجد بعض الأجوبة الشافية والتصويبات الكافية عند كل من يهمهم الأمر،  فيقوموا بمعالجتها لعله بذلك يتعدل السير الجماعي والتشاركي في الجهة التي لا تزال يجثم عليها الحيف والعزلة والتهميش رغم الفقر والهشاشة وأصالة إنسانها الذي لم تشفع له طيبوبته ولا وطنيته في شيء، ترى ما هي أهم هذه الاختلالات وكيف يمكن علاجها كل من مكانه وبإمكانه؟.

خلل على مستوى الهيئات المدنية ذاتها

هل كانت الجهة في حاجة إلى توالد كل هذه الهيئات على شكل توالد الأحزاب والنقابات والتنسيقيات..، وهي التي تدعي أنها هيئات جامعة من الجميع وإلى الجميع، على امتداد الجهة، تروم تنميتها الشاملة والمستدامة ولم الشمل وجمع الشتات بالتنادي للخير بين كل الطاقات، هذه الأخيرة التي لا يخجل بعضها من التواجد في جل الهيئات وكأن الأمر سخاء في عرض الخدمات أو مجرد تسابق في جمع العضويات؟. 

هل كل معضلة الجهة في مجرد تغيير اسم الهيئات المدنية من قطب وائتلاف إلى مؤسسة و أكاديمية؟، أم في اثنيات وانتماءات المؤسسين وكلهم من أبناء الجهة الفاعلين والغيورين؟.

إطلاقا، لا أظن.. الملعب لازال فاسدا وربما بالمواصفات السياسية وحتى المدنية لازال غير موجود حتى يلعب فيه اللاعبون لا بحَكم عادل أو ظالم.

 

خلل على مستوى مجلس الجهة وقصوره الحاد 

 

هذا المجلس الذي لم يستوعب بصراعاته السياسوية هذه الهيئات المدنية الكبرى وما ينضوي تحتها من مئات الجمعيات في مختلف الأقاليم وفي مختلف التخصصات، وهي تمد إليه يدها المتعاونة، يد الشريك الأساسي في التنمية المستدامة والتواجد الميداني وسياسة القرب، كل هاته الهيئات المدنية الكبرى بالجهة على اختلاف مشاربها تهدف في أرضيتها التأسيسية الرائعة إلى التأويل الإيجابي للدستور والتطبيق السليم لمواده، إلى لم الشمل وجمع الشتات وتعبئة الطاقات والمقاربة التشاركية مع جميع الهيئات والمجالس والقطاعات والفاعلين، وإلى بلورة المشاريع التنموية والحقوقية والترافع عن مختلف الشرائح والمناطق والفئات، فهل مثل هذا مما لا ينبغي الحض عليه وعلى حامليه يا مجلس الجهة؟.

لو رأيت لرأيت وأدركت أنه من صلب عملك ومهامك؟؛ وإن اعتبرته كذلك، فأي إطار قانوني يؤطر ذلك وكل شيء في هذا المجلس يمضي دون المجتمع المدني الهادف وحقه الدستوري في التشاور العمومي، وفي الإسهام في وضع السياسات العمومية وأجرأتها وتقييمها (فصل 139)؟. 


خلل على مستوى السلطات العمومية ووصايتها  

تبدو السلطات في نسختها الحالية وكأنها لا ترحب بالهيئات المدنية إطلاقا، خاصة إذا كانت من حساسيات معينة مغضوب عليها، فلا هي نظمت لها ما أوجبه لها الدستور من فضاءات التشاور العمومي يضبط ما بينها وبين أعوانها ومجالس الجماعات، ولا هي منحتها أحيانا حق استعمال العمومي من الفضاءات والقاعات، وكلنا يتذكر ذلك التاريخ الأسود ل”البلوكاج” الخسيس وما تجرأ عليه من تدخل سافر بالمنع لمنح مشاريع الجمعيات مع مجلس الجهة السابق، وكذلك مع بعض المجالس الجماعية الأخرى عبر أقاليم الجهة، وكلنا يتذكر التوقيف التعسفي لحافلات نقل الطلبة المتفوقين في الجهة لإعدادهم لاجتياز مباريات المدارس العليا بتأطير مؤسسة درعة تافيلالت للخبراء والباحثين وشركائها؟.

كل هذا يلازم الفاعل المدني بشعور مرير وهو أن هناك من السلطات من حولت العديد من المجالس كما يقال إلى مجرد “وكالات إدارية” بمعنيين منها بالنيابة، لا سياسة لهم ولا تنمية عندهم.. مجرد جيوش للتصويت حسب الأوامر والهواتف والأظرفة.. لا نقاش ولا تواصل ولا حق المعلومة.. ليظل السؤال البسيط والمؤرق وهو: “ماذا يعني الترخيص بتأسيس هيئة مدنية كبرى أو صغرى، دون الترخيص بممارسة أنشطتها التي تأسست بموجبها، أو ماذا يعني الترخيص بهيئة جماعية مع فرض الوصاية عليها ورفض التأشير على مشاريعها بدل مجرد الرقابة والرقابة المشروعة”؟.


خلل على مستوى الجمعيات المكونة للهيئات الكبرى 

 

والتي تكتفي من هيئاتها الكبرى ببعض فتاة التكوين أو انتظار حظها من الشراكات، فوج أو فوجين من محو الأمية والتربية غير النظامية إن حظيت بهما؟، “كيفما تكونوا يولى عليكم”، على الجمعيات الصغرى المنضوية تحت أنسجة هيئاتها الكبرى، أن تكون فاعلة منضبطة، تؤدي واجبها في الانخراط وفي الحضور والمناقشة والاستجابة والمواكبة..، قبل أن تطالب بحقوقها، حتى تكون هيئتها الكبرى وازنة وذات مصداقية وتواجد ميداني حقيقي، وقوة اقتراحية وتفاوضية تلفت الأنظار وتأخذ بعين الاعتبار، ولها وعي وعطاء مع جمعيات نسيجها قبل أن تنتظره وتسعى إليه مع غيرها.

ذلك الغير الذي لا شيء سيجعله يسعى إلى هيئة دولية أو محلية للتشارك معها والقبول بشروطها، لا شيء غير الخبرة والعطاء والسمعة وقوة الامتداد؟. 


خلل على مستوى الساكنة المغلوبة على أمرها

 

تظل -مع الأسف- مفعولة بها في كل شيء لا فاعلة، فهذه التنمية المنتظرة مثلا، هل ستأتينا من طرف القطاعات الحكومية والسياسات العمومية؟، أم من طرف الجماعات والمجالس الترابية الحضرية منها والقروية؟، أم من طرف الجمعيات والمنظمات الدولية ومساعداتها الكونية؟، أم من الصناديق الخاصة والوكالات الشمالية والجنوبية؟، أم من المبادرة الوطنية للتنمية البشرية ونسخها المتتالية؟، أم من كل هذا أم من مجرد مجهوداتنا الذاتية؟.

ليس من المعقول أن نعتقد بدور المجتمع المدني في حياتنا وتنميتنا.. خدماتنا وترافعنا.. ثم نترك غيره من الهيئات تنفرد بوضع السياسات واتخاذ القرارات؟، ولا نستعمل ضدها ما يتاح لنا من ربط المسؤولية بالمحاسبة، ولا نطالبها بحسن التدبير والحكامة، ولا نحتج ضدها بعرائض وملتمسات أو حتى وقفة احتجاجية سلمية، قد يكون بدأ تأطيرها من مواقع التواصل الاجتماعي لتنتظم على أرض الواقع، ولم لا يصل الأمر إلى التصويت العقابي في الانتخابات والحرص على نزاهتها دون إثنيات وقبليات ولا شراء ذمم؟. 

اختلالات واختلالات، كلها تؤدي إلى تغول السلطات وروافدها المتحكم فيها، مقابل غياب وتغييب المجتمع المدني وأدواره الرائدة في حياتنا، اللهم ما كان من بعض الخدمات والمساعدات الخيرية والمعتادة في المناسبات، وهو الذي أولاه الدستور الجديد أدوارا طلائعية ورائدة إلى درجة جعله الشريك الأساسي للدولة وقطاعاتها الحكومية ومجالسها الجماعية وسلطاتها العمومية، يدا واحدة على التخلف والاستحواذ، على التحكم والاستبداد، على الشطط في استعمال السلطة…، لا فضل في ذلك للخنصر السياسي على البنصر المدني، ولا لإبهام غلاء الأسعار على وسطى ارتفاع البطالة وتدني الأجور، ولا لسبابة تراجع القيم وتخليق المرفق العمومي، فمتى سنحس أننا في قيم التنمية والمواطنة يدا واحدة أصابعها بعضهم لبعض وهم يد واحدة على من سواهم.. لا سياسي ولا مدني.. لا غياب ولا تغييب، لأنه وبكل بساطة أشياء متسخة تضرب بقوة في كل ما نبذله من جهود مقدرة لإرساء الديمقراطية الحقة وتحقيق التنمية المنتظرة بمقاربة تشاركية وعدالة مجالية لا بغيابهما أو تغييبهما؟. 

التعليقات مغلقة.